للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَنَّهُ مَعْصِيَةٌ لِذِكْرِ اسْتِزْلَالِ الشَّيْطَانِ وَعَفْوِ اللَّهِ عَنْهُمْ. وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ هَذَا التَّوَلِّيَ لَيْسَ مَعْصِيَةً، لِأَنَّهُمْ قَصَدُوا التَّحَصُّنَ بِالْمَدِينَةِ، وَقَطْعَ طَمَعِ الْعَدُوِّ مِنْهُمْ، لَمَّا سَمِعُوا أَنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ. أَوْ لِكَوْنِهِمْ لَمْ يَسْمَعُوا دُعَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

«إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ»

لِلْهَوْلِ الَّذِي كَانُوا فِيهِ. أَوْ لِكَوْنِهِمْ كَانُوا سَبْعَمِائَةٍ وَالْعَدُوُّ ثَلَاثَةَ آلَافٍ، وَعِنْدَ هَذَا يَجُوزُ الِانْهِزَامُ. أَوْ لِكَوْنِهِمْ ظَنُّوا أَنَّ الرَّسُولَ مَا انْحَازَ إِلَى الْجَبَلِ، وَأَنَّهُ يَجْعَلُ ظَهْرَهُ الْمَدِينَةَ. فَمَذْهَبُهُ خِلَافَ الظَّاهِرِ، وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ يَجُوزُ الْفِرَارُ مَعَهَا. وَقَدْ ذَكَرَ تَعَالَى اسْتِزْلَالَ الشَّيْطَانِ إِيَّاهُمْ وَعَفْوَهُ تَعَالَى عَنْهُمْ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ فِيمَا يَجُوزُ فِعْلُهُ. وَجَاءَ قَوْلُهُ: بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا، وَلَمْ يجىء بِمَا كَسَبُوا، لِأَنَّهُ تَعَالَى يَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ كَمَا قال تعالى: وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ «١» فَالِاسْتِزْلَالُ كَانَ بِسَبَبِ بَعْضِ الذُّنُوبِ الَّتِي لَمْ يَعْفُ عَنْهَا، فَجُعِلَتْ سَبَبًا لِلِاسْتِزْلَالِ. وَلَوْ كَانَ مَعْفُوًّا عَنْهُ لَمَا كَانَ سَبَبًا لِلِاسْتِزْلَالِ.

وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ مَعْنَى الْعَفْوِ هُنَا هُوَ حَطُّ التَّبِعَاتِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَكَذَلِكَ تَأَوَّلَهُ عُثْمَانُ فِي مُحَاوَرَةٍ جَرَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، قَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: قَدْ كُنْتَ تَوَلَّيْتَ مَعَ مَنْ تَوَلَّى يَوْمَ الْجَمْعِ، يَعْنِي يَوْمَ أُحُدٍ. فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ: قَالَ اللَّهُ: وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ، فَكُنْتُ فِيمَنْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ. وَكَذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ مَعَ الرَّجُلِ الْعِرَاقِيِّ حِينَ نَشَدَهُ بِحُرْمَةِ هَذَا الْبَيْتِ: أَتَعْلَمُ أَنَّ عُثْمَانَ فَرَّ يَوْمَ أُحُدٍ؟ أَجَابَهُ: بِأَنَّهُ يَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ عَفَا عَنْهُ.

وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: مَعْنَى عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُ لَمْ يُعَاقِبْهُمْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْفِرَارُ مِنَ الزَّحْفِ كَبِيرَةٌ مِنَ الْكَبَائِرِ بِإِجْمَاعٍ فِيمَا عَلِمْتُ، وَعَدَّهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «فِي الْمُوبِقَاتِ مَعَ الشِّرْكِ وَقَتْلِ النَّفْسِ وَغَيْرِهِمَا» انْتَهَى وَلَمَّا كَانَ مَذْهَبُ الزَّمَخْشَرِيِّ أَنَّ الْعَفْوَ وَالْغُفْرَانَ عَنِ الذَّنْبِ لَا يَكُونُ إِلَّا لِمَنْ تَابَ، وَأَنَّ الذَّنْبَ إِذَا لَمْ يُتَبْ مِنْهُ لَا يَكُونُ مَعَهُ الْعَفْوُ، دَسَّ مَذْهَبَهُ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ، فَقَالَ: وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ لِتَوْبَتِهِمْ وَاعْتِذَارِهِمْ انْتَهَى.

إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ أَيْ غَفُوُرُ الذُّنُوبِ حَلِيمٌ لَا يُعَاجِلُ بِالْعُقُوبَةِ. وَجَاءَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ كَالتَّعْلِيلِ لِعَفْوِهِ تَعَالَى عَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَوَلَّوْا يَوْمَ أُحُدٍ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ، وَاسِعُ الْحِلْمِ.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا مَا ماتُوا وَما قُتِلُوا لَمَّا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ الْمُنَافِقِينَ: لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا، وَأَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ: وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قتلوا،


(١) سورة المائدة: ٥/ ١٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>