صَحِيحٌ، لَكِنَّ زِيَادَةَ مَا لِلتَّوْكِيدِ لَا يُنْكِرُهُ فِي أَمَاكِنِهِ مَنْ لَهُ أَدْنَى تَعَلُّقٍ بِالْعَرَبِيَّةِ، فَضْلًا عَنْ مَنْ يَتَعَاطَى تَفْسِيرَ كَلَامِ اللَّهِ، وَلَيْسَ مَا فِي هَذَا الْمَكَانِ مِمَّا يَتَوَهَّمُهُ أَحَدٌ مُهْمَلًا فَلَا يَحْتَاجُ ذَلِكَ إِلَى تَأْوِيلِهَا بِأَنْ يَكُونَ اسْتِفْهَامًا لِلتَّعَجُّبِ. ثُمَّ إِنَّ تَقْدِيرَهُ ذَلِكَ: فَبِأَيِّ رَحْمَةٍ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ جَعَلَ مَا مُضَافَةً لِلرَّحْمَةِ، وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا تُضَافُ مَا الِاسْتِفْهَامِيَّةُ، وَلَا أَسْمَاءُ الِاسْتِفْهَامِ غَيْرُ أي بلا خلاف، وكم عَلَى مَذْهَبِ أَبِي إِسْحَاقَ.
وَالثَّانِي: إِذَا لَمْ تَصِحَّ الْإِضَافَةُ فَيَكُونُ إِعْرَابُهُ بَدَلًا، وَإِذَا كَانَ بَدَلًا مِنِ اسْمِ الِاسْتِفْهَامِ فَلَا بُدَّ مِنْ إِعَادَةِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ فِي الْبَدَلِ، وَهَذَا الرَّجُلُ لَحَظَ الْمَعْنَى وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى مَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ مِنْ أَحْكَامِ الْأَلْفَاظِ، وَكَانَ يُغْنِيهِ عَنْ هَذَا الِارْتِبَاكِ وَالتَّسَلُّقِ إِلَى مَا لَا يُحْسِنُهُ وَالتَّسَوُّرُ عَلَيْهِ. قَوْلُ الزَّجَّاجِ فِي مَا هَذِهِ؟ إِنَّهَا صِلَةٌ فِيهَا مَعْنَى التَّوْكِيدِ بِإِجْمَاعِ النَّحْوِيِّينَ.
وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ ثَمَرَةَ اللِّينِ هِيَ الْمَحَبَّةُ، وَالِاجْتِمَاعُ عَلَيْهِ. وَأَنَّ خِلَافَهَا مِنَ الْجَفْوَةِ وَالْخُشُونَةِ مُؤَدٍّ إِلَى التَّفَرُّقِ، وَالْمَعْنَى: لَوْ شَافَهْتُهُمْ بِالْمَلَامَةِ عَلَى مَا صَدَرَ مِنْهُمْ مِنَ الْمُخَالَفَةِ وَالْفِرَارِ لِتَفَرَّقُوا مِنْ حَوْلِكَ هَيْبَةً مِنْكَ وَحَيَاءً، فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِتَفَرُّقِ كَلِمَةِ الْإِسْلَامِ وَضَعْفِ مَادَّتِهِ، وَإِطْمَاعًا لِلْعَدُوِّ وَاللِّينِ وَالرِّفْقِ، فَيَكُونُ فِيمَا لَمْ يُفْضِ إِلَى إِهْمَالِ حَقٍّ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ الْكُفَّارِ:
وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ «١» وفي وَصْفِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ أَنَّهُ لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ، وَلَا صَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ. وَالْوَصْفَانِ قِيلَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، فَجُمِعَا لِلتَّأْكِيدِ. وَقِيلَ: الْفَظَاظَةُ الْجَفْوَةُ قَوْلًا وَفِعْلًا. وَغِلَظُ الْقَلْبِ: عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِهِ خُلِقَ صُلْبًا لَا يَلِينُ وَلَا يَتَأَثَّرُ، وَعَنِ الْغِلَظِ تَنْشَأُ الْفَظَاظَةُ تَقَدَّمَ مَا هُوَ ظَاهِرٌ لِلْحِسِّ عَلَى مَا هُوَ خَافٍ، وَإِنَّمَا يُعْلَمُ بِظُهُورِ أَثَرِهِ.
فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ أَمَرَهُ تَعَالَى بِالْعَفْوِ عَنْهُمْ، وَذَلِكَ فِيمَا كَانَ خَاصًّا بِهِ مِنْ تَبِعَةٍ لَهُ عَلَيْهِمْ، وَبِالِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ فِيمَا هُوَ مُخْتَصٌّ بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَبِمُشَاوَرَتِهِمْ. وَفِيهَا فَوَائِدُ تَطْيِيبُ نُفُوسِهِمْ، وَالرَّفْعُ مِنْ مِقْدَارِهِمْ بِصَفَاءِ قَلْبِهِ لَهُمْ، حَيْثُ أَهَّلَهُمْ لِلْمُشَاوَرَةِ، وَجَعَلَهُمْ خَوَاصَّ بَعْدَ مَا صَدَرَ مِنْهُمْ، وَتَشْرِيعُ الْمُشَاوَرَةِ لِمَنْ بَعْدَهُ، وَالِاسْتِظْهَارُ بِرَأْيِهِمْ فِيمَا لَمْ يَنْزِلْ فِيهِ وَحْيٌ. فَقَدْ يَكُونُ عِنْدَهُمْ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا مَا يَنْتَفِعُ بِهِ، وَاخْتِبَارُ عُقُولِهِمْ، فَيُنْزِلُهُمْ مَنَازِلَهُمْ، وَاجْتِهَادُهُمْ فِيمَا فِيهِ وَجْهُ الصَّلَاحِ. وَجَرَى عَلَى مَنَاهِجِ الْعَرَبِ وَعَادَتِهَا فِي الِاسْتِشَارَةِ فِي الْأُمُورِ، وَإِذَا لَمْ يُشَاوِرْ أَحَدًا مِنْهُمْ حَصَلَ فِي نفسه شيء،
(١) سورة التوبة: ٩/ ٧٣.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute