للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لِاسْتِحْكَامِ الشَّبَهِ، حَتَّى كَأَنَّ هَذِهِ الذَّاتَ هِيَ الذَّاتُ، وَالْعَائِدُ عَلَى الَّذِي مَحْذُوفٌ، أَيْ رُزِقْنَاهُ، وَمِنْ مُتَعَلِّقَةٌ برزقا، وَهِيَ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ. وَقِيلَ: مَقْطُوعٌ عَنِ الْإِضَافَةِ، وَالْمُضَافُ إِلَيْهِ مَعْرِفَةٌ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ وَتَقْدِيرُهُ مِنْ قَبْلِهِ: أَيْ مِنْ قَبْلِ الْمَرْزُوقِ. وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَفْسِيرِ ذَلِكَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالضَّحَّاكُ، وَمُقَاتِلٌ: مَعْنَاهُ رِزْقُ الْغَدَاةِ كَرِزْقِ الْعَشِيِّ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، وَأَبُو عَبِيدَ: ثَمَرُ الْجَنَّةِ إِذَا جُنِيَ خَلَفَهُ مِثْلُهُ، فَإِذَا رَأَوْا مَا خَلَفَ الْمَجْنِيَّ اشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ. فَقَالُوا: هَذَا الَّذِي رُزِقَنَا مِنْ قَبْلُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَابْنُ زَيْدٍ:

يَعْنِي بِقَوْلِهِ: مِنْ قَبْلُ فِي الدُّنْيَا، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ مِثْلُهُ فِي الصُّورَةِ، فَالْقَبْلِيَّةُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ تَكُونُ فِي الْجَنَّةِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَكُونُ فِي الدُّنْيَا. وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: مَعْنَاهُ هَذَا الَّذِي وُعِدْنَا فِي الدُّنْيَا أَنَّ نُرْزَقَهُ فِي الْآخِرَةِ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ الْمُبْتَدَأُ، هُوَ نَفْسُ الْخَبَرِ، وَلَا يَكُونُ التَّقْدِيرُ مِثْلَ: وَعَبَّرَ عَنِ الْوَعْدِ بِمُتَعَلِّقِهِ وَهُوَ الرِّزْقُ، وَهُوَ مَجَازٌ، فَلِصِدْقِ الْوَعْدِ بِهِ صَارَ كَأَنَّهُمْ رُزِقُوهُ فِي الدُّنْيَا، وَكَوْنُ الْخَبَرِ يَكُونُ غَيْرَ الْمُبْتَدَأِ أَيْضًا مَجَازٌ، إِلَّا أَنَّ هَذَا الْمَجَازَ أَكْثَرُ وَأَسْوَغُ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَكُونُ الْقَبْلِيَّةُ أَيْضًا فِي الدُّنْيَا، لِأَنَّ الْوَعْدَ وَقَعَ فِيهَا إِلَّا أَنْ كَوْنَ الْقَبْلِيَّةِ فِي الدُّنْيَا يُبْعِدُهُ دُخُولُ مِنْ عَلَى قَبْلُ لِأَنَّهَا لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، فَهَذَا مَوْضِعُ قَبْلُ لَا مَوْضِعُ مِنْ، لِأَنَّ بَيْنَ الزَّمَانَيْنِ تَرَاخِيًا كَثِيرًا، وَمَنْ تُشْعِرُ بِابْتِدَاءِ الْقَبْلِيَّةِ فَتُنَافِي التَّرَاخِيَ وَالِابْتِدَاءَ. وَإِذَا كَانَتِ الْقَبْلِيَّةُ فِي الْآخِرَةِ كَانَ فِي ذَلِكَ إِشْكَالٌ مِنْ حَيْثُ أَنَّ الرِّزْقَ الْأَوَّلَ الَّذِي رُزِقُوهُ لَا يَكُونُ لَهُ مِثْلٌ رُزِقُوهُ قَبْلُ لِأَنَّ الْفَرْضَ أَنَّهُ أَوَّلُ، فَإِذَا كَانَ أَوَّلَ لَمْ يَكُنْ قَبْلَهُ شَيْءٌ رُزِقُوهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى الْجِنْسِ، أَيْ هَذَا مِنَ الْجِنْسِ الَّذِي رُزِقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ، انْتَهَى كَلَامُهُ.

وَلَيْسَ هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى الْجِنْسِ، بَلْ هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى الرِّزْقِ. وَكَيْفَ يَكُونُ إِشَارَةً إِلَى الْجِنْسِ وَقَدْ فَسَّرَ قَوْلَهُ بَعْدَ مِنَ الْجِنْسِ الَّذِي رُزِقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ؟ فَكَأَنَّهُ قَالَ: هَذَا الْجِنْسُ مِنَ الْجِنْسِ الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ، وَأَنْتَ تَرَى هَذَا التَّرْكِيبَ كَيْفَ هُوَ. وَلَعَلَّ النَّاقِلَ صَحَّفَ مِثْلَ بِمِنْ، فَكَانَ التَّقْدِيرُ هَذَا الْجِنْسُ مِثْلَ الْجِنْسِ الَّذِي رزقنا من قبل، وإلا ظهر أنه تصحيف، لأن لتقدير مِنَ الْجِنْسِ بَعِيدٌ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ ذَلِكَ عَلَى ضَرْبٍ مِنَ التَّجَوُّزِ مِنْ إِطْلَاقِ كُلٍّ، وَيُرَادُ بِهِ بَعْضٌ فَتَقُولُ: هَذَا مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، ثُمَّ تَتَجَوَّزُ فَتَقُولُ: هَذَا بَنُو تَمِيمٍ، تَجْعَلُهُ كُلُّ بَنِي تَمِيمٍ مَجَازًا تَوَسُّعًا. وَمَعْمُولُ الْقَوْلِ جُمْلَةٌ خَبَرِيَّةٌ يُخَاطِبُ بِهَا بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى مَعْنَى التَّعَجُّبِ، قَالَهُ: جَمَاعَةٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَقُولُونَ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ التَّعَجُّبِ. قَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ: يُرْزَقُونَ الثَّمَرَةَ ثُمَّ يُرْزَقُونَ بَعْدَهَا مِثْلَ صُورَتِهَا، وَالطَّعْمُ مُخْتَلِفٌ، فَهُمْ يَتَعَجَّبُونَ لِذَلِكَ وَيُخْبِرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا.

<<  <  ج: ص:  >  >>