فضيحة له على رؤوس الْأَشْهَادِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
وَقَالَ الكلبي بمثل لَهُ ذَلِكَ الشَّيْءُ الَّذِي غَلَّهُ فِي النَّارِ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: انْزِلْ فَخُذْهُ، فَيَنْزِلُ فَيَحْمِلُهُ عَلَى ظَهْرِهِ فَإِذَا بَلَغَ صَوْمَعَتَهُ وَقَعَ فِي النَّارِ، ثُمَّ كُلِّفَ أَنْ يَنْزِلَ إِلَيْهِ فَيُخْرِجَهُ، يُفْعَلُ ذَلِكَ بِهِ.
وَقِيلَ: يَأْتِي حَامِلًا إِثْمَ مَا غَلَّ. وَقِيلَ: يُؤْخَذُ مِنْ حَسَنَاتِهِ عِوَضَ مَا غَلَّ. وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي تَعْظِيمِ الْغُلُولِ وَالْوَعِيدِ عَلَيْهِ.
ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ هَذِهِ جُمْلَةٌ مَعْطُوفَةً عَلَى الْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ لَمَّا ذَكَرَ مِنْ مَسْأَلَةِ الْغُلُولِ، وَمَا يَجْرِي لِصَاحِبِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. ذَكَرَ أَنَّ ذَلِكَ الْجَزَاءَ لَيْسَ مُخْتَصًّا بِمَنْ غَلَّ، بَلْ كُلُّ نَفْسٍ تُوَفَّى جَزَاءً مَا كَسَبَتْ مِنْ غَيْرِ ظُلْمٍ، فَصَارَ الْغَالُّ مَذْكُورًا مَرَّتَيْنِ: مَرَّةً بِخُصُوصِهِ، وَمَرَّةً بِانْدِرَاجِهِ فِي هَذَا الْعَامِّ لِيَعْلَمَ أَنَّهُ غَيْرُ مُتَخَلِّصٍ مِنْ تَبِعَةِ مَا غَلَّ، وَمِنْ تبعة مَا كَسَبَتْ مِنْ غَيْرِ الْغُلُولِ. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.
أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ هَذَا الِاسْتِفْهَامُ مَعْنَاهُ النَّفْيُ، أَيْ لَيْسَ مَنِ اتَّبَعَ رِضَا اللَّهِ فَامْتَثَلَ أَوَامِرَهُ وَاجْتَنَبَ مَنَاهِيهِ كَمَنْ عَصَاهُ فَبَاءَ بِسَخَطِهِ، وَهَذَا مِنَ الِاسْتِعَارَةِ الْبَدِيعِيَّةِ. جَعَلَ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ كَالدَّلِيلِ الَّذِي يَتْبَعُهُ مَنْ يَهْتَدِي بِهِ، وَجَعَلَ الْعَاصِيَ كَالشَّخْصِ الَّذِي أُمِرَ بِأَنْ يَتَّبِعَ شَيْئًا عَنِ اتِّبَاعِهِ وَرَجَعَ مَصْحُوبًا بِمَا يُخَالِفُ الِاتِّبَاعَ. وَفِي الْآيَةِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى حَذْفٌ وَالتَّقْدِيرُ: أفمن اتبع ما يؤول بِهِ إِلَى رِضَا اللَّهِ عَنْهُ، فَبَاءَ بِرِضَاهُ كَمَنْ لَمْ يَتَّبِعْ ذَلِكَ فَبَاءَ بِسَخَطِهِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكُ وَالْجُمْهُورُ: أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ فَلَمْ يَغُلَّ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ حِينَ غَلَّ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ بِاتِّبَاعِ الرَّسُولِ يَوْمَ أُحُدٍ، كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ بِتَخَلُّفِهِ وَهُمْ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ أَيْضًا: رِضْوَانُ اللَّهِ الْجِهَادُ، وَالسُّخْطُ الْفِرَارُ. وَقِيلَ:
رِضَا اللَّهِ طَاعَتُهُ، وَسُخْطُهُ عِقَابُهُ. وَقِيلَ: سُخْطُهُ مَعْصِيَتُهُ قَالَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ. وَيَعْسُرُ مَا يَزْعُمُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ تَقْدِيرِ مَعْطُوفٍ بَيْنَ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ وَبَيْنَ حَرْفِ الْعَطْفِ فِي مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ، وَتَقْدِيرُهُ مُتَكَلَّفٌ جِدًّا فِيهِ، رَجَحَ إِذْ ذَاكَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ: مِنْ أَنَّ الْفَاءَ مَحَلُّهَا قَبْلَ الْهَمْزَةِ، لَكِنْ قُدِّمَتِ الْهَمْزَةُ لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ لَهُ صَدْرُ الْكَلَامِ. وَتَقَدَّمَ اخْتِلَافُ الْقُرَّاءِ فِي رِضْوَانَ فِي أَوَائِلِ هَذِهِ السُّورَةِ، وَالظَّاهِرُ اسْتِئْنَافٌ.
وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ: أَخْبَرَ أَنَّ مَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ فَمَكَانُهُ الَّذِي يَأْوِي إِلَيْهِ هُوَ جَهَنَّمُ، وَأَفْهَمَ هَذَا أَنَّ مُقَابِلَهُ وَهُوَ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ مَأْوَاهُ الْجَنَّةُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ فِي صِلَةِ مَنْ فَوَصَلَهَا بِقَوْلِهِ: بَاءَ. وَبِهَذِهِ الْجُمْلَةِ كَانَ الْمَعْنَى: كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطِ اللَّهِ، وَآلَ إِلَى النَّارِ. وَبِئْسَ الْمَصِيرُ: أَيْ جَهَنَّمَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute