الزمخشري في عوده الضَّمِيرِ إِلَى الْمَرْزُوقِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَا يَظْهَرُ أَيْضًا، لِأَنَّ هَذِهِ الْجُمَلَ إِنَّمَا جَاءَتْ مُحَدَّثًا بِهَا عَنِ الْجَنَّةِ وَأَحْوَالِهَا، وَكَوْنُهُ يُخْبِرُ عَنِ الْمَرْزُوقِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَنَّهُ مُتَشَابِهٌ، لَيْسَ مِنْ حَدِيثِ الْجَنَّةِ إِلَّا بِتَكَلُّفٍ. فَالظَّاهِرُ مَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا مِنْ عَوْدِ الضَّمِيرِ إِلَى الَّذِي أُشِيرَ إِلَيْهِ بِهَذَا فَقَطْ، وَانْتَصَبَ مُتَشَابِهًا عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي بِهِ، وَهِيَ حَالٌ لَازِمَةٌ، لِأَنَّ التَّشَابُهَ ثَابِتٌ لَهُ، أُتُوا بِهِ أو لم يؤتوا، وَالتَّشَابُهُ قِيلَ: فِي الْجَوْدَةِ وَالْخِيَارِ، فَإِنَّ فَوَاكِهَ الْجَنَّةِ لَيْسَ فِيهَا رَدِيءٌ، قَالَهُ قَتَادَةُ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كِتاباً مُتَشابِهاً «١» ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: كَأَنَّهُ يُرِيدُ مُتَنَاسِبًا فِي أَنَّ كُلَّ صِنْفٍ هُوَ أَعْلَى جِنْسِهِ، فَهَذَا تَشَابُهٌ مَا أَوْ فِي اللَّوْنِ، وَهُوَ مُخْتَلِفٌ فِي الطَّعْمِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ، أَوْ فِي الطَّعْمِ وَاللَّذَّةِ وَالشَّهْوَةِ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَلْوَانُهُ، أَوْ مُتَشَابِهٌ بِثَمَرِ الدُّنْيَا فِي الِاسْمِ مُخْتَلِفٌ فِي اللَّوْنِ وَالرَّائِحَةِ وَالطَّعْمِ، أَوْ مُتَشَابِهٌ بِثَمَرِ الدُّنْيَا فِي الصُّورَةِ لَا فِي الْقَدْرِ وَالطَّعْمِ، قَالَهُ عِكْرِمَةُ وَغَيْرُهُ. وَرَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ حَدِيثًا يَرْفَعُهُ. قَالَ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن اللَّهَ لَيَنْفَعُنَا بِالْأَعْرَابِ وَمَسَائِلِهِمْ.
أَقْبَلَ أَعْرَابِيٌّ يَوْمًا فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ذَكَرَ اللَّهُ فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةً مُؤْذِيَةً، وَمَا كُنْتُ أَرَى فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةً مُؤْذِيَةً تُؤْذِي صَاحِبَهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا هِيَ؟» قَالَ: السِّدْرَةُ، فَإِنَّ لَهَا شَوْكًا مُؤْذِيًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم: «أليس يَقُولُ فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ، خَضَدَ اللَّهُ الشَّوْكَ، فَجَعَلَ مَكَانَ كُلِّ شَوْكَةٍ ثَمَرَةً، فَإِنَّهَا لَتُنْبِتُ ثَمَرًا يُفْتَقُ مِنَ الثَّمَرَةِ مِنْهَا عَلَى اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ لَوْنًا طَعَامًا مَا فِيهِ لَوْنٌ يُشْبِهُ الْآخَرَ؟»
وَاخْتَارَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّ ثَمَرَ الْجَنَّةِ مُتَشَابِهٌ بِثَمَرِ الدُّنْيَا، وَأُطْلِقَ الْقَوْلُ فِي كَوْنِهِ كَانَ مَشَابِهًا لِثَمَرِ الدُّنْيَا، وَلَمْ يَكُنْ أَجْنَاسًا أُخَرَ.
وَمُلَخَّصُ مَا ذُكِرَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَأْنَسُ بِالْمَأْلُوفِ، وَإِذَا رَأَى غَيْرَ الْمَأْلُوفِ نَفَرَ عَنْهُ طَبْعُهُ، وَإِذَا ظَفِرَ بِشَيْءٍ مِمَّا أَلِفَهُ وَظَهَرَ لَهُ فِيهِ مِزْيَةٌ، وَتَفَاوُتٌ فِي الْجِنْسِ، سُرَّ بِهِ وَاغْتَبَطَ بِحُصُولِهِ.
ثُمَّ ذَكَرَ مَا وَرَدَ فِي مِقْدَارِ الرُّمَّانَةِ وَالنَّبْقَةِ وَالشَّجَرَةِ وَكَيْفِيَّةِ نَخْلِ الْجَنَّةِ وَالْعُنْقُودُ وَالْأَنْهَارُ مَا يُوقَفُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِهِ. وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى مَا اخْتَارَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَالْأَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى ثُبُوتُ التَّشَابُهِ لَهُ، وَلَمْ يُقَيِّدِ التَّشَابُهَ بَلْ أَطْلَقَ، فَتَقْيِيدُهُ يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ. وَلَمَّا كَانَتْ مَجَامِعُ اللَّذَّاتِ فِي الْمَسْكَنِ الْبَهِيِّ وَالْمَطْعَمِ الشَّهِيِّ وَالْمَنْكَحِ الْوَضِيِّ، ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا يُبَشَّرُ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ. وَقَدْ بَدَأَ بِالْمَسْكَنِ لِأَنَّ بِهِ الِاسْتِقْرَارَ فِي دَارِ الْمَقَامِ، وَثَنَّى بِالْمَطْعَمِ لأن به قوام
(١) سورة الزمر: ٣٩/ ٢٣.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute