للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يَقْدِرُ عَلَيْهِ. كَمَا تَقُولُ عِنْدِي مَا تُرِيدُ، تُرِيدُ اخْتِصَاصَكَ بِهِ وَتَمَلُّكَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِحَضْرَتِكَ.

وَأَعْرَبُوا عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ مُبْتَدَأً، وَخَبَرًا فِي مَوْضِعِ خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ الْأَوَّلِ. وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَرْتَفِعَ حُسْنُ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ، إِذْ قَدِ اعْتَمَدَ الظَّرْفُ بِوُقُوعِهِ خَبَرًا فَالتَّقْدِيرُ: وَاللَّهُ مُسْتَقِرٌّ، أَوِ اسْتَقَرَّ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهَذَا تَعْلِيمٌ مِنَ اللَّهِ كَيْفَ يُدْعَى، وَكَيْفَ يُبْتَهَلُ إِلَيْهِ وَيُتَضَرَّعُ، وَتَكْرِيرُ رَبَّنَا مِنْ بَابِ الِابْتِهَالِ، وَإِعْلَامٌ بِمَا يُوجِبُ حُسْنَ الْإِجَابَةِ وَحُسْنَ الْإِثَابَةِ مِنِ احْتِمَالِ الْمَشَاقِّ فِي دِينِ اللَّهِ وَالصَّبْرِ عَلَى صُعُوبَةِ تَكَالِيفِهِ، وَقَطْعٍ لِأَطْمَاعِ الْكُسَالَى الْمُتَمَنِّينَ عَلَيْهِ، وَتَسْجِيلٍ عَلَى مَنْ لَا يَرَى الثَّوَابَ مَوْصُولًا إِلَيْهِ بِالْعَمَلِ بِالْجَهْلِ وَالْغَبَاوَةِ انْتَهَى. وَآخِرُ كَلَامِهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ وَطَعْنٍ عَلَى أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ.

لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ قِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ كَانُوا يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ فَيُصِيبُونَ الْأَمْوَالَ قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ أَيْضًا: هُمْ أَهْلُ مَكَّةَ.

وَرُوِيَ أَنَّ نَاسًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ كَانُوا يَرَوْنَ مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْخِصْبِ وَالرَّخَاءِ وَلِينِ الْعَيْشِ، فَيَقُولُونَ: إِنَّ أَعْدَاءَ اللَّهِ فِيمَا نَرَى مِنَ الْخَيْرِ وَقَدْ هَلَكْنَا مِنَ الْجُوعِ وَالْجَهْدِ.

وَقَالَ مُقَاتِلٌ: فِي مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَفْظٌ عَامٌّ، وَالْكَافُ لِلْخِطَابِ. فَقِيلَ: لِكُلِّ سَامِعٍ. وَقِيلَ: هُوَ خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمُرَادُ أُمَّتُهُ. قَالَهُ: ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقَالَ: نَزَلَتْ لَا يَغُرُّنَّكَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَنْزِلَةَ لَا تَظُنَّ أَنَّ حَالَ الْكُفَّارِ حَسَنَةٌ فَتَهْتَمَّ لِذَلِكَ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُغْتَرَّ فَارِحٌ بِالشَّيْءِ الَّذِي يَغْتَرُّ بِهِ. فَالْكُفَّارُ مُغْتَرُّونَ بِتَقَلُّبِهِمْ، وَالْمُؤْمِنُونَ مُهْتَمُّونَ بِهِ. لَكِنَّهُ رُبَّمَا يَقَعُ فِي نَفْسِ مُؤْمِنٍ أَنَّ هَذَا الْإِمْلَاءَ لِلْكُفَّارِ إِنَّمَا هُوَ خَيْرٌ لَهُمْ، فَيَجِيءُ هَذَا جُنُوحًا إِلَى حَالِهِمْ، وَنَوْعًا مِنَ الِاغْتِرَارِ، وَلِذَلِكَ حَسُنَتْ لَا يَغُرَّنَّكَ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُ عُمَرَ لِحَفْصَةَ: «لَا يَغُرَّنَّكِ أَنْ كَانَتْ جَارَتُكِ أَوْضَأَ مِنْكِ وَأَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» الْمَعْنَى: لا تغتري بما ينم لِتِلْكَ مِنَ الْإِدْلَالِ فَتَقَعِي فِيهِ فَيُطَلِّقَكِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْتَهَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَا يَغُرَّنَّكَ الْخِطَابُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ لِكُلِّ أَحَدٍ.

أَيْ: لَا تَنْظُرْ إِلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ سَعَةِ الرِّزْقِ، وَالْمُضْطَرِبِ وَدَرْكِ الْعَاجِلِ وَإِصَابَةِ حُظُوظِ الدُّنْيَا، وَلَا نغترر بِظَاهِرِ مَا تَرَى مِنْ تَبَسُّطِهِمْ فِي الْأَرْضِ وَتَصَرُّفِهِمْ فِي الْبِلَادِ. (فَإِنْ قُلْتَ) :

كَيْفَ جَازَ أَنْ يَغْتَرَّ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ حَتَّى يُنْهَى عَنْهُ وَعَنِ الِاغْتِرَارِ بِهِ؟ (قُلْتُ) : فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ مَدَرَةَ الْقَوْمِ وَمُقَدِّمَهُمْ يُخَاطَبُ بِشَيْءٍ فَيَقُومُ خِطَابُهُ مَقَامَ خِطَابِهِمْ جَمِيعًا، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: لَا يَغُرَّنَّكُمْ. وَالثَّانِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ غَيْرَ مَغْرُورٍ بِحَالِهِمْ، فَأَكَّدَ عَلَيْهِ مَا كَانَ وَثَبَتَ عَلَى الْتِزَامِهِ كَقَوْلِهِ: وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ «١» وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ «٢»


(١) سورة هود: ١٣/ ١٤.
(٢) سورة الأنعام: ٦/ ١٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>