للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَهُوَ مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي جَاءَ لَهَا اسْتَفْعَلَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ «١» ، وَهَذَا هُنَا مِنَ الْحَيَاءِ. وَفِي كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنِ اسْتَحْيَا لَيْسَ مُغْنِيًا عَنِ الْمُجَرَّدِ بَلْ هُوَ مُوَافِقٌ لِلْمُجَرَّدِ، وَهُوَ أَحَدُ الْمَعَانِي أَيْضًا الَّذِي جَاءَ لَهَا اسْتَفْعَلَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:

يُقَالُ حَيِيَ الرَّجُلُ كَمَا يُقَالُ: نَسِيَ وَخَشِيَ وَشَظِيَ الْفَرَسُ، إِذَا اعْتَلَتْ هَذِهِ الْأَعْضَاءُ جُعِلَ الْحَيِيُّ لِمَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الِانْكِسَارِ، وَالتَّغَيُّرِ مُنْكَسِرُ الْقُوَّةِ مُنْتَقِضُ الْحَيَاةِ، كَمَا قَالُوا: فُلَانٌ هَلَكَ حَيَاءً مِنْ كَذَا، وَمَاتَ حَيَاءً، وَرَأَيْتُ الْهِلَالَ فِي وَجْهِهِ مِنْ شِدَّةِ الْحَيَاءِ، وَذَابَ حَيَاءً، وَجَمُدَ فِي مَكَانِهِ خَجَلًا، انْتَهَى كَلَامُهُ. فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ يُقَالُ: مِنَ الْحَيَاءِ حَيِيَ الرَّجُلُ، فَيَكُونُ اسْتَحْيَا عَلَى ذَلِكَ مُوَافِقًا لِلْمُجَرَّدِ، وَعَلَى مَا نَقَلْنَاهُ قَبْلُ يَكُونُ مُغْنِيًا عَنِ الْمُجَرَّدِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي رِوَايَةِ شِبْلٍ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَيَعْقُوبُ: يَسْتَحِي بِيَاءٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ لُغَةُ بَنِي تَمِيمٍ، يُجْرُونَهَا مَجْرَى يَسْتَبِي. قَالَ الشَّاعِرُ:

أَلَا تَسْتَحِي مِنَّا مُلُوكٌ وَتَتَّقِي ... مَحَارِمُنَا لَا يَبُوءُ الدَّمُ بِالدَّمِ

وَالْمَاضِي: اسْتَحَى، قَالَ الشَّاعِرُ:

إِذَا مَا استحين الْمَاءَ يَعْرِضُ نَفْسَهُ ... كَرِعْنَ بست فِي إِنَاءٍ مِنَ الْوَرْدِ

وَاخْتَلَفَ النُّحَاةُ فِي الْمَحْذُوفَةِ، فَقِيلَ لَامُ الْكَلِمَةِ، فَالْوَزْنُ يَسْتَفِعُ، فَنُقِلَتْ حَرَكَةُ الْعَيْنِ إِلَى الْفَاءِ وَسَكَنَتِ الْعَيْنُ فَصَارَتْ يَسْتَفِعُ. وَقِيلَ الْمَحْذُوفُ الْعَيْنُ، فَالْوَزْنُ يَسْتَيْفِلُ ثُمَّ نُقِلَتْ حَرَكَةُ اللَّامِ إِلَى الْفَاءِ وَسَكَنَتِ اللَّامُ فَصَارَتْ يَسْتَفِلُ. وَأَكْثَرُ نُصُوصِ الْأَئِمَّةِ عَلَى أَنَّ الْمَحْذُوفَ هُوَ الْعَيْنُ.

وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي (كِتَابِ التَّكْمِيلِ لِشَرْحِ التَّسْهِيلِ) مِنْ تَأْلِيفِنَا، وَلَيْسَ هَذَا الْحَذْفُ مُخْتَصًّا بِالْمَاضِي وَالْمُضَارِعِ، بَلْ يَكُونُ أَيْضًا فِي سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ، كَاسْمِ الْفَاعِلِ، وَاسْمِ الْمَفْعُولِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَهَذَا الْفِعْلُ مِمَّا نَقَلُوا أَنَّهُ يَكُونُ مُتَعَدِّيًا بِنَفْسِهِ، وَيَكُونُ مُتَعَدِّيًا بِحَرْفِ جَرٍّ، يُقَالُ: اسْتَحْيَيْتُهُ وَاسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ. فَعَلَى هَذَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَضْرِبَ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا بِهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ تَعَدَّى إِلَيْهِ بِنَفْسِهِ، أَوْ تَعَدَّى إِلَيْهِ عَلَى إِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ. وَفِي ذَلِكَ الْخِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ «٢» ، أَذَلِكَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بَعْدَ حَذْفِ حَرْفِ الْجَرِّ أَمْ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ؟.

وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَى الِاسْتِحْيَاءِ الْمَنْسُوبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى نَفْيُهُ، فَقِيلَ: المعنى


(١) سورة الفاتحة ١/ ٥.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ٢٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>