للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

التَّوْبَةِ، وَالتَّوْبَةُ فَرْضٌ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، وَتَصِحُّ وَإِنْ نَقَضَهَا فِي ثَانِي حَالٍ بِمُعَاوَدَةِ الذَّنْبِ وَمِنْ ذَنْبٍ، وَإِنْ أَقَامَ عَلَى ذَنْبٍ غَيْرِهِ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ وَمَنْ نَحَا نَحْوَهُمْ مِمَّنْ يَنْتَمِي إِلَى السُّنَّةِ، إِذْ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ تَائِبًا مَنْ أَقَامَ عَلَى ذَنْبٍ. وَقِيلَ: عَلَى بِمَعْنَى عِنْدَ. وَقَالَ الْحَسَنُ:

بِمَعْنَى مِنْ، وَالسُّوءُ يَعُمُّ الْكُفْرَ وَالْمَعَاصِي غَيْرُهُ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ تَسُوءُ عَاقِبَتُهُ.

وَمَوْضِعُ بِجَهَالَةٍ حَالٌ، أَيْ: جَاهِلِينَ ذَوِي سَفَهٍ وَقِلَّةِ تَحْصِيلٍ، إِذِ ارْتِكَابُ السُّوءِ، لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ غَلَبَةِ الْهَوَى لِلْعَقْلِ، وَالْعَقْلُ يَدْعُو إِلَى الطَّاعَةِ، وَالْهَوَى وَالشَّهْوَةُ يَدْعُوَانِ إِلَى الْمُخَالَفَةِ، فَكُلُّ عَاصٍ جَاهِلٌ بِهَذَا التَّفْسِيرِ. وَلَا تَكُونُ الْجَهَالَةُ هُنَا التَّعَمُّدَ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الضَّحَّاكُ. وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ: عَلَى أَنَّ مَنْ تَعَمَّدَ الذَّنْبَ وَتَابَ، تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ. وَأَجْمَعَ أَصْحَابُ رسول الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَعْصِيَةٍ هِيَ بِجَهَالَةٍ عَمْدًا كَانَتْ أَوْ جَهْلًا.

وقال الْكَلْبِيُّ: بِجَهَالَةٍ أَيْ لَا يَجْهَلُ كَوْنَهَا مَعْصِيَةً، وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُ كُنْهَ الْعُقُوبَةِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ:

أُمُورُ الدُّنْيَا كُلُّهَا جَهَالَةٌ، يَعْنِي مَا اخْتَصَّ بِهَا وَخَرَجَ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: جَهَالَتُهُ مِنْ حَيْثُ آثَرَ اللَّذَّةَ الْفَانِيَةَ عَلَى اللَّذَّةِ الْبَاقِيَةِ، وَالْحَظَّ الْعَاجِلَ عَلَى الْآجِلِ. وَقِيلَ: الْجَهَالَةُ الْإِصْرَارُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَلِذَلِكَ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ فَعَلَهُ غَيْرَ مُصِرٍّ عَلَيْهِ، فَأَشْبَهَ الْجَاهِلَ الَّذِي لَا يَتَعَمَّدُ الشيء. وقال الماتريدي: جَهْلُ الْفِعْلِ الْوُقُوعُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنْهُ الْعَفْوَ عَنِ الْخَطَأِ، وَيُحْتَمَلُ قَصْدُ الْفِعْلِ وَالْجَهْلُ بِمَوْقِعِهِ أَيْ: أَنَّهُ حَرَامٌ، أَوْ فِي الْحُرْمَةِ: أَيُّ: قَدْرٍ هِيَ فَيَرْتَكِبُهُ مَعَ الْجَهَالَةِ بِحَالِهِ، لَا قَصْدَ الِاسْتِخْفَافِ بِهِ وَالتَّهَاوُنِ بِهِ. وَالْعَمَلُ بِالْجَهَالَةِ قَدْ يَكُونُ عَنْ غَلَبَةِ شَهْوَةٍ، فَيَعْمَلُ لِغَرَضِ اقْتِضَاءِ الشَّهْوَةِ عَلَى طَمَعِ أَنَّهُ سَيَتُوبُ مِنْ بَعْدُ وَيَصِيرُ صَالِحًا، وَقَدْ يَكُونُ عَلَى طَمَعِ الْمَغْفِرَةِ وَالِاتِّكَالِ عَلَى رَحْمَتِهِ وَكَرَمِهِ. وَقَدْ تَكُونُ الْجَهَالَةُ جَهَالَةَ عُقُوبَةٍ عَلَيْهِ.

وَمَعْنَى مِنْ قَرِيبٍ: أَيْ مِنْ زَمَانٍ قَرِيبٍ. وَالْقُرْبُ هُنَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى زَمَانِ الْمَعْصِيَةِ، وَهِيَ بَقِيَّةُ مُدَّةِ حَيَاتِهِ إِلَى أَنْ يُغَرْغِرَ، أَوْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى زَمَانِ مُفَارَقَةِ الرُّوحِ. فَإِذَا كَانَتْ تَوْبَتُهُ تُقْبَلُ فِي هَذَا الْوَقْتِ فَقَبُولُهَا قَبْلَهُ أَجْدَرُ، وَقَدْ بَيَّنَ غَايَةَ مَنْعِ قَبُولِ التَّوْبَةِ فِي الْآيَةِ بَعْدَهَا بِحُضُورِ الْمَوْتِ. وَقِيلَ: قَبْلَ أَنْ يُحِيطَ السُّوءُ بِحَسَنَاتِهِ، أَيْ قَبْلَ أَنْ تَكْثُرَ سَيِّئَاتُهُ وَتَزِيدَ عَلَى حَسَنَاتِهِ، فَيَبْقَى كَأَنَّهُ بِلَا حَسَنَاتٍ. وَقِيلَ: قَبْلَ أَنْ تَتَرَاكَمَ ظُلُمَاتُ قَلْبِهِ بِكَثْرَةِ ذُنُوبِهِ، وَيُؤَدِّيهِ ذَلِكَ إِلَى الْكُفْرِ الْمُحِيطِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ وَمُحَمَّدُ بْنُ قَيْسٍ وَأَبُو مِجْلَزٍ وَابْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُهُمْ: قَبْلَ الْمُعَايَنَةِ لِلْمَلَائِكَةِ وَالسَّوْقِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ: قَبْلَ الْمَرَضِ وَالْمَوْتِ. فَذَكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَحْسَنَ أَوْقَاتِ التَّوْبَةِ، وَذَكَرَ مَنْ قَبْلَهُ آخِرَ وَقْتِهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ

<<  <  ج: ص:  >  >>