للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

سَبَبِ النُّزُولِ، وَالْعُمُومِ هُوَ الظَّاهِرُ. فَكُلُّ مَنْ نَقَضَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ مُسْلِمٍ وَكَافِرٍ وَمُنَافِقٍ أَوْ مُشْرِكٍ أَوْ كِتَابِيٍّ تَنَاوَلَهُ هَذَا الذم، ومن مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ يَنْقُضُونَ، وَهِيَ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّقْضَ حَصَلَ عَقِيبَ تَوَثُّقِ الْعَهْدِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَهُمَا، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ اكْتِرَاثِهِمْ بِالْعَهْدِ، فَأَثَرُ مَا اسْتَوْثَقَ اللَّهُ مِنْهُمْ نَقَضُوهُ. وَقِيلَ: مِنْ زَائِدَةٌ وَهُوَ بَعِيدٌ، وَالْمِيثَاقُ مَفْعُولٌ مِنَ الْوَثَاقَةِ، وَهُوَ الشَّدُّ فِي الْعَقْدِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ الْعَهْدُ الْمُؤَكَّدُ بِالْيَمِينِ. وَلَيْسَ الْمَعْنَى هُنَا عَلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا كَنَى بِهِ عَنِ الِالْتِزَامِ وَالْقَبُولِ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَطِيَّةَ: هُوَ اسْمٌ فِي مَوْضِعِ الْمَصْدَرِ، كَمَا قَالَ عَمْرُو بْنُ شُيَيْمٍ:

أَكُفْرًا بَعْدَ رَدِّ الْمَوْتِ عَنِّي ... وَبَعْدَ عَطَائِكَ الْمِائَةَ الرُّتَاعَا

أَرَادَ بَعْدَ إِعْطَائِكَ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَلَا يَتَعَيَّنُ مَا ذُكِرَ، بَلْ قَدْ أَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ التَّوْثِقَةِ، كَمَا أَنَّ الْمِيعَادَ بِمَعْنَى الْوَعْدِ، وَالْمِيلَادَ بِمَعْنَى الْوِلَادَةِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا، وَالْأَصْلُ فِي مِفْعَالٍ أَنْ يَكُونَ وَصْفًا نَحْوَ: مِطْعَامٍ وَمِسْقَامٍ وَمِذْكَارٍ. وَقَدْ طَالَعْتُ كَلَامَ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ الْحَاجِّ، وَكَلَامَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكٍ، وَهُمَا مِنْ أَوْعَبِ النَّاسِ لِأَبْنِيَةِ الْمَصَادِرِ، فَلَمْ يَذْكُرَا مِفْعَالًا فِي أَبْنِيَةِ الْمَصَادِرِ. وَالضَّمِيرُ فِي مِيثَاقِهِ عَائِدٌ عَلَى الْعَهْدِ لِأَنَّهُ الْمُحَدَّثُ عَنْهُ، وَأُجِيزَ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ مِنْ تَوْثِيقِهِ عَلَيْهِمْ، أَوْ مِنْ بَعْدِ مَا وَثَّقَ بِهِ عَهْدَهُ عَلَى اخْتِلَافِ التَّأْوِيلَيْنِ فِي الْمِيثَاقِ. قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: إِنْ أَعَدْتَ الْهَاءَ عَلَى اسْمِ اللَّهِ كَانَ الْمَصْدَرُ مُضَافًا إِلَى الْفَاعِلِ، وَإِنْ أَعَدْتَهَا إِلَى الْعَهْدِ كَانَ مُضَافًا إِلَى الْمَفْعُولِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمِيثَاقَ عِنْدَهُ مَصْدَرٌ.

وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ: وَمَا مَوْصُولَةٌ بِمَعْنَى الَّذِي، وَفِيهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَطَعُوهُ بِالتَّكْذِيبِ وَالْعِصْيَانِ، قَالَهُ الْحَسَنُ وَفِيهِ ضَعْفٌ، إِذْ لَوْ كَانَ كَمَا قَالَ لَكَانَ مِنْ مَكَانِ مَا. الثَّانِي: الْقَوْلُ: أَمَرَ اللَّهِ أَنْ يُوصَلَ بِالْعَمَلِ فَقَطَعُوا بَيْنَهُمَا، قَالُوا: وَلَمْ يَعْمَلُوا، يُشِيرُ إِلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ «١» . الثَّالِثُ: التَّصْدِيقُ بِالْأَنْبِيَاءِ، أُمِرُوا بِوَصْلِهِ فَقَطَعُوهُ بِتَكْذِيبِ بَعْضٍ وَتَصْدِيقِ بَعْضٍ. الرَّابِعُ: الرَّحِمُ وَالْقَرَابَةُ، قَالَهُ قَتَادَةُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ كُفَّارَ قُرَيْشٍ وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ. الْخَامِسُ: أَنَّهُ عَلَى الْعُمُومِ فِي كُلِّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ، وَهَذَا هُوَ الْأَوْجَهُ، لِأَنَّ فِيهِ حَمْلَ اللَّفْظِ عَلَى مَدْلُولِهِ مِنَ الْعُمُومِ، وَلَا دَلِيلَ واضح على الخصوص.


(١) سورة الفتح: ٤٨/ ١١.

<<  <  ج: ص:  >  >>