الْإِحْسَانِ لِلْأَصْنَافِ الْمَذْكُورِينَ، وَأَنَّ الْحَامِلَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ اتِّصَافُهُ بِتَيْنِكَ الصِّفَتَيْنِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ مَسَاقَهُمَا غَيْرُ هَذَا الْمَسَاقِ الَّذِي ذَكَرُوهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِالْإِحْسَانِ لِلْأَصْنَافِ الْمَذْكُورَةِ وَالتَّحَفِّي بِهِمْ وَإِكْرَامِهِمْ، كَانَ فِي الْعَادَةِ أَنْ يَنْشَأَ عَنْ مَنِ اتَّصَفَ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ أَنْ يَجِدَ فِي نَفْسِهِ زَهْوًا وَخُيَلَاءَ، وَافْتِخَارًا بِمَا صَدَرَ مِنْهُ مِنَ الْإِحْسَانِ. وَكَثِيرًا مَا افْتَخَرَتِ الْعَرَبُ بِذَلِكَ وَتَعَاظَمَتْ فِي نَثْرِهَا وَنَظْمِهَا بِهِ، فَأَرَادَ تَعَالَى أَنْ يُنَبِّهَ عَلَى التَّحَلِّي بِصِفَةِ التَّوَاضُعِ، وَأَنْ لَا يَرَى لِنَفْسِهِ شفوقا عَلَى مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهِ، وَأَنْ لَا يَفْخَرَ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى «١» فَنَفَى تَعَالَى مَحَبَّتَهُ عَنِ الْمُتَحَلِّي بِهَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ. وَكَانَ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ أُمِرُوا بِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَبِالْإِحْسَانِ إِلَى الوالدين. ومن ذكر معهما: وَنُهُوا عَنِ الْخُيَلَاءِ وَالْفَخْرِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَلَا تَخْتَالُوا وَتَفْخَرُوا عَلَى مَنْ أَحْسَنْتُمْ إِلَيْهِ، إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا. إِلَّا أَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ لَا يَتِمُّ إِلَّا عَلَى أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ مُبْتَدَأً مُقْتَطَعًا مِمَّا قَبْلَهُ، أَمَّا إِنْ كَانَ مُتَّصِلًا بِمَا قَبْلَهُ فَيَأْتِي الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ، وَيَأْتِي إِعْرَابُ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ، وَبِهِ يَتَّضِحُ الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرُوهُ، وَالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي قَوْمٍ كُفَّارٍ. رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَابْنُ زَيْدٍ، وحضرمي: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَحْبَارِ الْيَهُودِ بَخِلُوا بِالْإِعْلَامِ بِأَمْرِ محمد صلى الله عليه وسلّم، وَكَتَمُوا مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ، وَأَمَرُوا بِالْبُخْلِ عَلَى جِهَتَيْنِ: أَمَرُوا أَتْبَاعَهُمْ بِجُحُودِ أَمْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا لِلْأَنْصَارِ: لِمَ تُنْفِقُونَ عَلَى الْمُهَاجِرِينَ فَتَفْتَقِرُونَ؟ وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ. وَقِيلَ: فِي مُشْرِكِي مَكَّةَ.
وَعَلَى اخْتِلَافِ سَبَبِ النُّزُولِ اخْتَلَفَ أَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ مِنَ الْمَعْنَى بِالَّذِينِ يَبْخَلُونَ.
وَقِيلَ: هِيَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَنْ يَبْخَلُ وَيَأْمُرُ بِالْبُخْلِ مِنَ الْيَهُودِ وَغَيْرِهِمْ. وَالْبُخْلُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: مَنْعُ السَّائِلِ شَيْئًا مِمَّا فِي يَدِ الْمَسْئُولِ مِنَ الْمَالِ، وَعِنْدَهُ فضل. قال طاووس:
الْبُخْلُ أَنْ يَبْخَلَ الْإِنْسَانُ بِمَا فِي يَدِهِ، وَالشُّحُّ أَنْ يَشُحَّ عَلَى مَا فِي أَيْدِي النَّاسِ. وَالْبُخْلُ فِي الشَّرِيعَةِ، هُوَ مَنْعُ الْوَاجِبِ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: لَمْ يُرِدِ الْبُخْلَ بِالْمَالِ، بَلْ بِجَمِيعِ مَا فِيهِ نَفْعٌ لِلْغَيْرِ انْتَهَى. وَلَمَّا أَمَرَ تَعَالَى بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْوَالِدَيْنِ وَمَنْ ذَكَرَ مَعَهُمَا مِنَ المحتاجين على
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢٦٤.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute