مِنْ عُرَى سَلْبِي لَمْ أَضْرِبُهُ يُرِيدُ: لَمْ أَضْرِبْهُ، فَنَقَلَ حَرَكَةَ الْهَاءِ إِلَى الْبَاءِ الْمَجْزُومَةِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ، وَنُبَيْحٌ، وَالْجَرَّاحُ: ثُمَّ يُدْرِكَهُ بِنَصْبِ الكاف، وذلك على إضماران كَقَوْلِ الْأَعْشَى:
وَيَأْوِي إِلَيْهَا الْمُسْتَجِيرُ فَيُعْصَمَا قَالَ ابْنُ جِنِّي: هَذَا لَيْسَ بِالسَّهْلِ، وَإِنَّمَا بَابُهُ الشِّعْرُ لَا الْقُرْآنُ وَأَنْشَدَ أَبُو زَيْدٍ فِيهِ:
سَأَتْرُكُ مَنْزِلِي لِبَنِي تَمِيمٍ ... وَأَلْحَقُ بِالْحِجَازِ فَأَسْتَرِيحَا
وَالْآيَةُ أَقْوَى مِنْ هَذَا لِتَقَدُّمِ الشَّرْطِ قَبْلَ الْمَعْطُوفِ انْتَهَى. وَتَقُولُ: أَجْرَى ثُمَّ مُجْرَى الْوَاوِ وَالْفَاءِ، فَكَمَا جَازَ نَصْبُ الْفِعْلِ بِإِضْمَارِ أَنْ بَعْدَهُمَا بَيْنَ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ، كَذَلِكَ جَازَ فِي ثُمَّ إِجْرَاءُ لَهَا مُجْرَاهُمَا، وَهَذَا مَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ، وَاسْتَدَلُّوا بِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ فِي الْفَاءِ:
وَمَنْ لَا يُقَدِّمْ رِجْلَهُ مُطَمْئِنَةً ... فَيُثْبِتَهَا فِي مُسْتَوَى الْقَاعِ يَزْلَقُ
وَقَالَ آخَرُ فِي الْوَاوِ:
وَمَنْ يَقْتَرِبْ مِنَّا وَيُخْضِعْ نوؤه ... وَلَا يَخْشَ ظُلْمًا مَا أَقَامَ وَلَا هَضْمًا
وَقَالُوا: كُلُّ هِجْرَةٍ لِغَرَضٍ دِينِيٍّ مِنْ: طَلَبِ عِلْمٍ، أَوْ حَجٍّ، أَوْ جِهَادٍ، أَوْ فِرَارٍ إِلَى بَلَدٍ يَزْدَادُ فِيهِ طَاعَةً، أَوْ قَنَاعَةً، وَزُهْدًا فِي الدُّنْيَا، أَوِ ابْتِغَاءَ رِزْقٍ طَيِّبٍ، فَهِيَ هِجْرَةٌ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَإِنْ أَدْرَكَهُ الْمَوْتُ فَأَجْرُهُ واقع عَلَى اللَّهِ تَعَالَى.
قِيلَ: وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْغَازِيَ إِذَا خَرَجَ إِلَى الْغَزْوِ وَمَاتَ قَبْلَ الْقِتَالِ فَلَهُ سَهْمُهُ وَإِنْ لَمْ يَحْضُرِ الْحَرْبَ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَابْنِ الْمُبَارَكِ، وَقَالُوا: إِذَا لَمْ يُحْرَمِ الْأَجْرَ لَمْ يُحْرَمِ الْغَنِيمَةَ. وَلَا تَدُلُّ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّ الْغَنِيمَةَ لَا تُسْتَحَقُّ إِلَّا بَعْدَ الْحِيَازَةِ، فَالسَّهْمُ مُتَعَلِّقٌ بِالْحِيَازَةِ، وَهَذَا مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَغْنَمَ، وَلَا حُجَّةَ فِي قَوْلِهِ: فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَوْ مَاتَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَقَدْ خَرَجَ إِلَى الْغَزْوِ وَمَا دَخَلَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، أَنَّهُ لَا يُسْهَمُ لَهُ، وَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ كَمَا وَقَعَ أَجْرُ الَّذِي خَرَجَ مُهَاجِرًا فَمَاتَ قَبْلَ بُلُوغِهِ دَارَ الْهِجْرَةِ.
وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً أَيْ: غَفُورًا لِمَا سَلَفَ مِنْ ذُنُوبِهِ، رَحِيمًا بِوُقُوعِ أَجْرِهِ عَلَيْهِ وَمُكَافَأَتِهِ عَلَى هِجْرَتِهِ وَنِيَّتِهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute