للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

صِبْغَةَ اللَّهِ «١» وفِطْرَتَ اللَّهِ «٢» وَعَلَى ذَلِكَ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ لِمَعْرِفَتِهَا بِهِ انْتَهَى.

وَهَذِهِ نَزْغَةٌ اعْتِزَالِيَّةٌ فِي أَنَّ الْعَقْلَ يُحَسِّنُ وَيُقَبِّحُ. وَقِيلَ: هَذِهِ الثَّلَاثَةُ تَضَمَّنَتِ الْأَفْعَالَ الْحَسَنَةَ، وَبَدَأَ بِأَكْثَرِهَا نَفْعًا وَهُوَ إِيصَالُ النَّفْعِ إِلَى الْغَيْرِ، وَنَبَّهَ بِالْمَعْرُوفِ عَلَى النَّوَافِلِ الَّتِي هِيَ مِنَ الْإِحْسَانِ وَالتَّفَضُّلِ، وَالْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ عَلَى سِيَاسَتِهِمْ، وَمَا يُؤَدِّي إِلَى نَظْمِ شَمْلِهِمْ انْتَهَى.

وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالصَّدَقَةِ قِيلَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: صَلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ»

وَخَصَّ مَنْ أَمَرَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَفِي ضِمْنِ ذَلِكَ أَنَّ الْفَاعِلَ أَكْثَرُ اسْتِحْقَاقًا مِنَ الْأَمْرِ، وَإِذَا كَانَ الْخَيْرُ فِي نَجْوَى الْأَمْرِ بِهِ فَلَا يَكُونُ فِي مَنْ يَفْعَلُهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى..

وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ الْخَيْرَ فِي مَنْ أَمَرَ ذَكَرَ ثَوَابَ مَنْ فَعَلَ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ: وَمَنْ يَأْمُرُ بِذَلِكَ، فَيُعَبِّرُ بِالْفِعْلِ عَنِ الْأَمْرِ، كَمَا يُعَبِّرُ بِهِ عَنْ سَائِرِ الْأَفْعَالِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ: يُؤْتِيهِ بِالْيَاءِ، وَالْبَاقُونَ بِالنُّونِ عَلَى سَبِيلِ الِالْتِفَاتِ، لِيُنَاسِبَ مَا بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ: نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ «٣» فَيَكُونُ إِسْنَادُ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ الْعَظِيمِ، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ إِسْنَادِهِ إِلَى ضَمِيرِ الْغَائِبِ. وَمَنْ قَرَأَ بِالْيَاءِ لِحَظِّ الِاسْمِ الْغَائِبِ فِي قَوْلِهِ: ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ، وَفِي قَوْلِهِ: ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يجزي مِنَ الْأَعْمَالِ إِلَّا مَا كَانَ فِيهِ رِضَا اللَّهِ تَعَالَى، وَخُلُوصُهُ لِلَّهِ دُونَ رِيَاءٍ وَلَا سُمْعَةٍ.

وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً نَزَلَتْ فِي طُعْمَةَ بْنِ أُبَيْرِقٍ لَمَّا فَضَحَهُ اللَّهُ بِسَرِقَتِهِ، وَبَرَّأَ الْيَهُودِيَّ، ارْتَدَّ وَذَهَبَ إِلَى مَكَّةَ وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ مَوْتُهُ وَسَبَبُهُ. وَمِمَّا قِيلَ فِيهِ: إِنَّهُ رَكِبَ فِي سَفِينَةٍ فَسَرَقَ مِنْهَا مَالًا فَعُلِمَ بِهِ، فَأُلْقِيَ فِي الْبَحْرِ. وَقِيلَ: لَمَّا سَرَقَ الْحَجَّاجَ السُّلَمِيَّ اسْتَحَى الْحَجَّاجُ مِنْهُ لِأَنَّهُ كَانَ ضَيْفَهُ فَأَطْلَقَهُ، فَلَحِقَ بُحَيْرَةَ بَنِي سُلَيْمٍ فَعَبَدَ صَنَمًا لَهُمْ وَمَاتَ عَلَى الشِّرْكِ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ طُعْمَةَ قَدِمُوا فَأَسْلَمُوا، ثُمَّ ارْتَدُّوا. وَتَقَدَّمَ مَعْنَى الْمُشَاقَّةِ فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ «٤» وَمَنْ يُشَاقِقِ: عَامٌّ فَيَنْدَرِجُ فِيهِ طُعْمَةُ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُشَاقِّينَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى: أَيِ اتَّضَحَ لَهُ الْحَقُّ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْهِدَايَةِ. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إِلَّا إِخْبَارُ اللَّهِ نَبِيَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِقِصَّةِ طُعْمَةَ وَإِطْلَاعِهِ إِيَّاهُ عَلَى مَا بَيَّتُوهُ وَزَوَّرُوهُ، لَكَانَ لَهُ فِي ذلك أعظم


(١) سورة البقرة: ٢/ ١٣٨.
(٢) سورة الروم: ٣٠/ ٣.
(٣) سورة النساء: ٤/ ١١٥.
(٤) سورة البقرة: ٢/ ١٣٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>