للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَكْثَرِ الْعَرَبِ شُرُوطٌ ذُكِرَتْ فِي النَّحْوِ، وَبَنُو سُلَيْمٍ يَفْتَحُونَهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ، وَقَالَ شَاعِرُهُمْ:

إِذَا قلت إني آئب أَهْلَ بَلْدَةٍ ... نَزَعْتُ بِهَا عَنْهَا الْوَلِيَّةَ بِالْهَجْرِ

جَاعِلٌ: اسْمُ فَاعِلٍ بِمَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ، وَيَجُوزُ إِضَافَتُهُ لِلْمَفْعُولِ إِلَّا إِذَا فُصِلَ بَيْنَهُمَا كَهَذَا، فَلَا يَجُوزُ، وَإِذَا جَازَ إِعْمَالُهُ، فَهُوَ أَحْسَنُ مِنَ الْإِضَافَةِ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ سِيبَوَيْهِ، وَقَالَ الْكِسَائِيُ: هُمَا سَوَاءٌ، وَالَّذِي أَخْتَارُهُ أَنَّ الْإِضَافَةَ أَحْسَنُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ اخْتِيَارِنَا ذَلِكَ فِي بَعْضِ مَا كَتَبْنَاهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ. وَفِي الْجَعْلِ هُنَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بِمَعْنَى الْخَلْقِ، فَيَتَعَدَّى إِلَى وَاحِدٍ، قَالَهُ أَبُو رَوْقٍ، وَقَرِيبٌ مِنْهُ مَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ أَنَّهُ بِمَعْنَى فَاعِلٍ، وَلَمْ يَذْكُرِ ابْنُ عَطِيَّةَ غَيْرَ هَذَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ بِمَعْنَى التَّصْيِيرِ، فَيَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ. وَالثَّانِي هُوَ فِي الْأَرْضِ، أَيْ: مُصَيِّرٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً، قَالَهُ الْفَرَّاءُ، وَلَمْ يَذْكُرِ الزَّمَخْشَرِيُّ غَيْرَهُ. وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ سَائِغٌ، إِلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ عِنْدِي أَجْوَدُ، لِأَنَّهُمْ قَالُوا: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها؟

فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ مُقَابِلٌ لِقَوْلِهِ: جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً. فَلَوْ كَانَ الْجَعْلُ الْأَوَّلُ عَلَى مَعْنَى التَّصْيِيرِ لَذَكَرَهُ ثَانِيًا، فَكَانَ: أَتَجْعَلُ فِيهَا خَلِيفَةً مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا؟ وَإِذَا لَمْ يَأْتِ كَذَلِكَ، كَانَ مَعْنَى الْخَلْقِ أَرْجَحَ. وَلَا احْتِيَاجَ إِلَى تَقْدِيرِ خَلِيفَةً لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ إِضْمَارٌ، وَكَلَامٌ بِغَيْرِ إِضْمَارٍ أَحْسَنُ مِنْ كَلَامٍ بِإِضْمَارٍ، وَجُعِلَ الْخَبَرُ اسْمَ فَاعِلٍ، لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الثُّبُوتِ دُونَ التَّجَدُّدِ شَيْئًا شَيْئًا.

وَالْجَعْلُ: سَوَاءٌ كَانَ بِمَعْنَى الْخَلْقِ أَوِ التَّصْيِيرِ، وَكَانَ آدَمُ هُوَ الْخَلِيفَةَ عَلَى أَحْسَنِ الْفُهُومِ، لَمْ يَكُنْ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، فَلَا تَكَرُّرَ فِيهِ، إِذْ لَمْ يَخْلُقْهُ أَوْ لَمْ يُصَيِّرْهُ خَلِيفَةً إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً. وَقَوْلُهُ: فِي الْأَرْضِ: ظَاهِرُهُ الْأَرْضُ كُلُّهَا، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَقِيلَ: أَرْضُ مَكَّةَ.

وَرَوَى ابْنُ سَابِطٍ هَذَا التَّفْسِيرَ بِأَنَّهَا أَرْضُ مَكَّةَ مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ لَمْ يُعْدَلْ عَنْهُ، قِيلَ: وَلِذَلِكَ سُمِّيَ وَسَطُهَا بَكَّةَ، لِأَنَّ الْأَرْضَ بُكَّتْ من تحتها، واختصت بلا ذكر لِأَنَّهَا مَقَرُّ مَنْ هَلَكَ قَوْمُهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَدُفِنَ بِهَا نُوحٌ وَهُودٌ وَصَالِحٌ بَيْنَ الْمَقَامِ وَالرُّكْنِ، وَتَكُونُ الألف واللام فيها للعهد نَحْوَ: فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ «١» ، وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ «٢» اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ «٣» ، وقال الشاعر:


(١) سورة يوسف: ١٢/ ٨٠. [.....]
(٢) سورة يوسف: ١٢/ ٢١.
(٣) سورة القصص: ٢٨/ ٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>