للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الصُّلْحِ لِلْعَهْدِ، وَيَعْنِي بِهِ صُلْحًا السَّابِقَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ «١» . وَقِيلَ: الصُّلْحُ عَامٌّ. وَقِيلَ: الصُّلْحُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي تَسْكُنُ إِلَيْهِ النُّفُوسُ وَيَزُولُ بِهِ الْخِلَافُ، وَيَنْدَرِجُ تَحْتَهُ صُلْحُ الزَّوْجَيْنِ، وَيَكُونُ الْمَعْنَى: خَيْرٌ مِنَ الْفُرْقَةِ وَالِاخْتِلَافِ. وَقِيلَ: خَيْرٌ هُنَا لَيْسَ أَفْعَلَ تَفْضِيلٍ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ خَيْرٌ مِنَ الْخُيُورِ، كَمَا أَنَّ الْخُصُومَةَ شَرٌّ مِنَ الشُّرُورِ.

وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ هَذَا مِنْ بَابِ الْمُبَالَغَةِ جُعِلَ الشُّحُّ كَأَنَّهُ شَيْءٌ مُعَدٌّ فِي مَكَانٍ. وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ وَسِيقَتْ إِلَيْهِ، وَلَمْ يَأْتِ، وَأُحْضِرَ الشُّحُّ الْأَنْفُسَ فَيَكُونُ مَسُوقًا إِلَى الْأَنْفُسِ، بَلِ الْأَنْفُسُ سِيقَتْ إِلَيْهِ لِكَوْنِ الشُّحِّ مَجْبُولًا عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ، وَمَرْكُوزًا فِي طَبِيعَتِهِ، وَخَصَّ الْمُفَسِّرُونَ هَذِهِ اللَّفْظَةَ هُنَا. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ: هُوَ شُحُّ الْمَرْأَةِ بِنَصِيبِهَا مِنْ زَوْجِهَا وَمَالِهَا. وَقَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ زَيْدٍ: هُوَ شُحُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحَقِّهِ. وَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ:

وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالشُّحِّ الْحِرْصُ، وَهُوَ أَنْ يَحْرِصَ كُلٌّ عَلَى حَقِّهِ يُقَالُ: هُوَ شَحِيحٌ بِمَوَدَّتِكَ، أَيْ حَرِيصٌ عَلَى بَقَائِهَا، وَلَا يُقَالُ فِي هَذَا بَخِيلٌ، فَكَأَنَّ الشُّحَّ وَالْحِرْصَ وَاحِدٌ فِي الْمَعْنَى، وَإِنْ كَانَ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ الشُّحُّ لِلْمَنْعِ والحرص للطلب، فَأُطْلِقَ عَلَى الْحِرْصِ الشُّحُّ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبَبٌ لِكَوْنِ الْآخَرِ، وَلِأَنَّ الْبُخْلَ يُحْمَلُ عَلَى الْحِرْصِ، وَالْحِرْصُ يُحْمَلُ عَلَى الْبُخْلِ انْتَهَى.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فِي قَوْلِهِ: وَالصُّلْحُ خَيْرٌ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ اعْتِرَاضٌ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ:

وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ. وَمَعْنَى إِحْضَارِ الْأَنْفُسِ الشُّحَّ: أَنَّ الشُّحَّ جُعِلَ حَاضِرًا لَهَا لَا يَغِيبُ عَنْهَا أَبَدًا وَلَا تَنْفَكُّ عَنْهُ، يَعْنِي: أَنَّهَا مَطْبُوعَةٌ عَلَيْهِ. وَالْغَرَضُ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَكَادُ تَسْمَحُ بِأَنْ يُقْسَمَ لَهَا، أَوْ يُمْسِكَهَا إِذَا رَغِبَ عَنْهَا وَأَحَبَّ غَيْرَهَا انْتَهَى. قوله. والصلح خبر جُمْلَةٌ اعْتِرَاضِيَّةٌ، وَكَذَلِكَ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ هُوَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ قَوْلَهُ: وَإِنْ يَتَفَرَّقا «٢» مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا «٣» وَقَوْلُهُ: وَمَعْنَى إِحْضَارِ الْأَنْفُسِ الشُّحَّ أَنَّ الشُّحَّ جُعِلَ حَاضِرًا لَا يَغِيبُ عَنْهَا أَبَدًا، جَعَلَهُ مِنْ بَابِ الْقَلْبِ وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ، بَلِ التَّرْكِيبُ الْقُرْآنِيُّ يَقْتَضِي أَنَّ الْأَنْفُسَ جُعِلَتْ حَاضِرَةً لِلشُّحِّ لَا تَغِيبُ عَنْهُ، لِأَنَّ الْأَنْفَسَ هُوَ الْمَفْعُولُ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ فَاعِلَةً قَبْلَ دُخُولِ هَمْزَةِ النَّقْلِ، إِذِ الْأَصْلُ: حَضَرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ. عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ فِي هَذَا الْبَابِ إِقَامَةُ الْمَفْعُولِ الثَّانِي مَقَامَ


(١) سورة المزمل: ٧٣/ ١٥- ١٦.
(٢) سورة النساء: ٤/ ١٣٠.
(٣) سورة النساء: ٤/ ١٢٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>