للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إِلَى الْمَفْعُولِ نَحْوَ قَوْلِهِ: مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ، أَيْ بِحَمْدِنَا إِيَّاكَ. وَالْفَاعِلُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ مَحْذُوفٌ فِي بَابِ الْمَصْدَرِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوَاعِدِهِمْ أَنَّ الْفَاعِلَ لَا يحذف وليس ممنوع فِي الْمَصْدَرِ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُهُمْ، لِأَنَّ أَسْمَاءَ الْأَجْنَاسِ لَا يُضْمَرُ فِيهَا، لِأَنَّهُ لَا يُضْمَرُ إِلَّا فِيمَا جَرَى مَجْرَى الْفِعْلِ، إِذِ الْإِضْمَارُ أَصِلٌ فِي الْفِعْلِ، وَلَا حَاجَةَ تَدْعُو إِلَى أَنَّ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُهُمْ، وَأَنَّ التَّقْدِيرَ: وَنَحْنُ نَسْبَحُ وَنُقَدِّسُ لَكَ بِحَمْدِكَ، فَاعْتُرِضَ بِحَمْدِكَ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ لِأَنَّ التَّقْدِيمَ وَالتَّأْخِيرَ مِمَّا يُخْتَصُّ بِالضَّرُورَةِ، فَلَا يُحْمَلُ كَلَامُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا جَاءَ بِحَمْدِكَ بَعْدَ نُسَبِّحُ لِاخْتِلَاطِ التَّسْبِيحِ بِالْحَمْدِ. وَجَاءَ قَوْلُهُ بَعْدَ:

وَنُقَدِّسُ لَكَ كَالتَّوْكِيدِ، لِأَنَّ التَّقْدِيسَ هُوَ: التَّطْهِيرُ، وَالتَّسْبِيحُ هُوَ: التَّنْزِيهُ وَالتَّبْرِئَةُ مِنَ السُّوءِ، فَهُمَا مُتَقَارِبَانِ فِي الْمَعْنَى. وَمَعْنَى التَّقْدِيسِ كَمَا ذَكَرْنَا التَّطْهِيرُ، وَمَفْعُولُهُ أَنْفُسَنَا لَكَ مِنَ الْأَدْنَاسِ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ وَغَيْرُهُ، أَوْ أَفْعَالَنَا مِنَ الْمَعَاصِي، قَالَهُ أَبُو مُسْلِمٍ، أَوِ الْمَعْنَى:

نُكَبِّرُكَ وَنُعَظِّمُكَ. قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَأَبُو صَالِحٍ، أَوْ نُصَلِّي لَكَ، أَوْ نَتَطَهَّرُ مِنْ أَعْمَالِهِمْ يَعْنُونَ بَنِي آدَمَ. حُكِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَوْ نُطَهِّرُ قُلُوبَنَا عَنِ الِالْتِفَاتِ إِلَى غَيْرِكَ، واللام في لك قيل زَائِدَةٌ، أَيْ نُقَدِّسُكَ. وَقِيلَ: لَامُ الْعِلَّةِ مُتَعَلِّقَةٌ بِنُقَدِّسُ، قِيلَ: أَوْ بَنُسَبِّحُ وَقِيلَ: معدية للفعل، كهي في سَجَدْتُ لِلَّهِ، وَقِيلَ: اللَّامُ لِلْبَيَانِ كَاللَّامِ بَعْدَ سَقْيًا لَكَ، فَتَتَعَلَّقُ إِذْ ذَاكَ بِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ مَا قَبْلُهُ، أَيْ تَقْدِيسُنَا لَكَ. وَالْأَحْسَنُ أَنْ تَكُونَ مُعْدِيَةً لِلْفِعْلِ، كَهِيَ فِي قَوْلِهِ: يُسَبِّحُ لِلَّهِ «١» ، وسَبَّحَ لِلَّهِ»

. وَقَدْ أَبْعَدَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ مِنْ قَوْلِهِ:

وَنَحْنُ نُسَبِّحُ اسْتِفْهَامِيَّةٌ حُذِفَ مِنْهَا أَدَاةُ الِاسْتِفْهَامِ وَأَنَّ التَّقْدِيرَ، أَوْ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ، أَمْ نَتَغَيَّرُ، بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، وَيَحْذِفُ مُعَادِلَ الْجُمْلَةِ الْمُقَدَّرَةِ دُخُولُ الْهَمْزَةِ عَلَيْهَا، وَهِيَ قَوْلُهُ: أَمْ نَتَغَيَّرُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِثْلَ قَوْلِهِ:

لَعَمْرِكَ مَا أَدْرِي وَإِنْ كُنْتُ دَارِيًا ... بِسَبْعٍ رَمَيْنَ الْجَمْرَ أَمْ بِثَمَانِ

يُرِيدُ: أَبِسَبْعٍ، لِأَنَّ الْفِعْلَ الْمُعَلَّقَ قَبْلَ بِسَبْعٍ وَالْجُزْءَ الْمُعَادِلَ بَعْدَهُ يَدُلَّانِ عَلَى حَذْفِ الْهَمْزَةِ. وَلَمَّا كَانَ ظَاهِرُ قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ، مِمَّا لَا يُنَاسِبُ أَنْ يُجَاوِبُوا بِهِ اللَّهَ، إِذْ قَالَ لَهُمْ: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً. وَكَانَ مِنَ الْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْعَقَائِدِ الْإِسْلَامِيَّةِ عِصْمَةُ الْمَلَائِكَةِ مِنَ الْمَعَاصِي وَالِاعْتِرَاضِ، لَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ إِلَّا طَائِفَةٌ مِنَ الْحَشَوِيَّةِ. وَهِيَ مَسْأَلَةٌ يُتَكَلَّمُ


(١) سورة الجمعة: ٦٢/ ١، وسورة التغابن: ٦٤/ ١.
(٢) سورة الحديد: ٥٧/ ١، وسورة الحشر ٥٩/ ١، وسورة الصف: ٦١/ ١.

<<  <  ج: ص:  >  >>