الْآيَةَ. وَبُدِئَ فِي أَنْوَاعِ الظُّلْمِ بِمَا هُوَ أَهَمُّ، وَهُوَ أَمْرُ الدِّينِ، وَهُوَ الصَّدُّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ بِأَمْرِ الدُّنْيَا وَهُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْأَذَى فِي بَعْضِ الْمَالِ، ثُمَّ ارْتَقَى إِلَى الْأَبْلَغِ فِي الْمَالِ الدُّنْيَوِيِّ وَهُوَ أَكْلُهُ بِالْبَاطِلِ أَيْ مَجَّانًا لَا عِوَضَ فِيهِ. وَفِي ذِكْرِ هَذِهِ الْآيَةِ امْتِنَانٌ عَلَى هذه الْأُمَّةِ حَيْثُ لَمْ يُعَامِلْهُمْ مُعَامَلَةَ الْيَهُودِ فَيُحَرِّمَ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا الطَّيِّبَاتِ عُقُوبَةً لَهُمْ بِذُنُوبِهِمْ.
وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً لَمَّا ذَكَرَ عُقُوبَةَ الدُّنْيَا ذَكَرَ مَا أُعِدَّ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ. وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ التَّحْرِيمُ عَامًّا لِلْيَهُودِ بِسَبَبِ ظُلْمِ مَنْ ظَلَمَ مِنْهُمْ، فَالْتَزَمَهُ ظَالِمُهُمْ وَغَيْرُ ظَالِمِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً «١» بَيَّنَ أَنَّ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ إِنَّمَا أُعِدَّ لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَأْتِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ.
لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً مَجِيءُ لَكِنْ هُنَا فِي غَايَةِ الْحُسْنِ، لِأَنَّهَا دَاخِلَةٌ بَيْنَ نَقِيضَيْنِ وَجَزَائِهِمَا، وَهُمُ:
الْكَافِرُونَ وَالْعَذَابُ الْأَلِيمُ، وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْأَجْرُ الْعَظِيمُ، وَالرَّاسِخُونَ الثَّابِتُونَ الْمُنْتَصِبُونَ الْمُسْتَبْصِرُونَ مِنْهُمْ: كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَأَضْرَابِهِ، وَالْمُؤْمِنُونَ يَعْنِي مِنْهُمْ، أَوِ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ عَامٌّ فِي مَنْ آمَنَ.
وَارْتَفَعَ الرَّاسِخُونَ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ يُؤْمِنُونَ لَا غَيْرَ، لِأَنَّ الْمَدْحَ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ تَمَامِ الْجُمْلَةِ. وَمَنْ جَعَلَ الْخَبَرَ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ فَقَوْلُهُ ضَعِيفٌ، وَانْتَصَبَ الْمُقِيمِينَ عَلَى الْمَدْحِ، وَارْتَفَعَ وَالْمُؤْتُونَ أَيْضًا عَلَى إِضْمَارٍ وَهُمْ عَلَى سَبِيلِ الْقَطْعِ إِلَى الرَّفْعِ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطَفَ عَلَى الْمَرْفُوعِ قَبْلَهُ، لِأَنَّ النَّعْتَ إِذَا انْقَطَعَ فِي شَيْءٍ مِنْهُ لَمْ يَعُدْ مَا بَعْدَهُ إِلَى إِعْرَابِ الْمَنْعُوتِ، وَهَذَا الْقَطْعُ لِبَيَانِ فَضْلِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، فَكَثُرَ الْوَصْفُ بِأَنْ جُعِلَ فِي جُمَلٍ.
وَقَرَأَ ابْنُ جُبَيْرٍ، وَعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ، وَالْجَحْدَرِيُّ، وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ، وَمَالِكُ بْنُ دِينَارٍ، وَعِصْمَةُ عَنِ الْأَعْمَشِ وَيُونُسُ وَهَارُونَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو: وَالْمُقِيمُونَ بِالرَّفْعِ نَسَقًا عَلَى الْأَوَّلِ، وَكَذَا هُوَ فِي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ. وَرُوِيَ أَنَّهَا كَذَلِكَ فِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ. وَقِيلَ:
بَلْ هِيَ فِيهِ، وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ كَمُصْحَفِ عُثْمَانَ. وَذُكِرَ عَنْ عَائِشَةَ وَأَبَانِ بْنِ عُثْمَانَ: إِنَّ كَتْبَهَا بِالْيَاءِ مِنْ خَطَأِ كَاتِبِ الْمُصْحَفِ، وَلَا يَصِحُّ عَنْهُمَا ذَلِكَ، لِأَنَّهُمَا عربيان فصيحان، قطع
(١) سورة الأنفال: ٨/ ٢٥.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute