للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ، وَغَيْرُ الْمُعَلَّمِ إِنَّمَا يَمْسِكُ لِنَفْسِهِ. وَمَعْنَى مما علمكم الله أي: مِنَ الْأَدَبِ الَّذِي أَدَّبَكُمْ بِهِ تَعَالَى، وَهُوَ اتِّبَاعُ أَوَامِرِهِ وَاجْتِنَابُ نَوَاهِيهِ، فَإِذَا أُمِرَ فَائْتَمَرَ، وَإِذَا زُجِرَ فَانْزَجَرَ، فَقَدْ تَعَلَّمَ مِمَّا عَلَّمَنَا اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ مِنْ كَلِمِ التَّكْلِيفِ، لِأَنَّهُ إِلْهَامٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَمُكْتَسَبٌ بِالْعَقْلِ انْتَهَى. وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: تُعَلِّمُونَهُنَّ، حَالٌ ثَانِيَةٌ.

وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَأْنَفَةً عَلَى تَقْدِيرِ: أَنْ لَا تَكُونَ مَا مِنْ قَوْلِهِ: وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ، شَرْطِيَّةً، إِلَّا إِنْ كَانَتِ اعْتِرَاضًا بَيْنَ الشَّرْطِ وَجَزَائِهِ. وَخَطَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ هُنَا فَقَالَ: وَفِيهِ فَائِدَةٌ جَلِيلَةٌ وَهِيَ أَنَّ كُلَّ آخِذٍ عِلْمًا أَنْ لَا يَأْخُذَهُ إِلَّا مِنْ قِبَلِ أَهْلِهِ عِلْمًا وَأَبْحَرِهِمْ دِرَايَةً، وَأَغْوَصِهِمْ عَلَى لَطَائِفِهِ وَحَقَائِقِهِ، وَاحْتَاجَ إِلَى أَنْ تُضْرَبَ إِلَيْهِ أَكْبَادُ الْإِبِلِ، فَكَمْ مِنْ آخِذٍ مِنْ غَيْرِ مُتْقِنٍ فَقَدْ ضَيَّعَ أَيَّامَهُ وَعَضَّ عِنْدَ لِقَاءِ النَّحَارِيرِ أَنَامِلَهُ.

فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ هذا أمر إباحة. ومن هُنَا لِلتَّبْعِيضِ وَالْمَعْنَى: كُلُوا مِنَ الصَّيْدِ الَّذِي أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ. وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ مِنْ زَائِدَةٌ فَقَوْلُهُ ضَعِيفٌ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ إِذَا أَمْسَكَ عَلَى مُرْسِلِهِ جَازَ الْأَكْلُ سَوَاءٌ أَكَلَ الْجَارِحُ مِنْهُ، أَوْ لَمْ يَأْكُلْ، وَبِهِ قَالَ: سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَسَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَابْنُ عُمَرَ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَجَمِيعِ أَصْحَابِهِ. وَلَوْ بَقِيَتْ بِضْعَةٌ بَعْدَ أَكْلِهِ جَازَ أَكْلُهَا وَمِنْ حُجَّتِهِمْ: أَنَّ قَتْلَهُ هِيَ ذَكَاتُهُ، فَلَا يَحْرُمُ مَا ذَكَّى. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ أَيْضًا وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَعَطَاءٌ، وَقَتَادَةُ، وَعِكْرِمَةُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ: لَا يُؤْكَلُ مَا بَقِيَ مِنْ أَكْلِ الْكَلْبِ وَلَا غَيْرِهِ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ وَلَمْ يُمْسِكْ عَلَى مُرْسِلِهِ. وَلِأَنَّ

فِي حَدِيثِ عَدِيٍّ «وَإِذَا أَكَلَ فَلَا تَأْكُلْ فَإِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ»

وَعَنْ عَلِيٍّ: «إِذَا أَكَلَ الْبَازِي فَلَا تأكل»

وفرق قوم مَا أَكَلَ مِنْهُ الْكَلْبُ فَمَنَعُوا مِنْ أَكْلِهِ، وَبَيْنَ مَا أَكَلَ مِنْهُ الْبَازِي، فَرَخَّصُوا فِي أَكْلِهِ مِنْهُمُ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَأَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ، لِأَنَّ الْكَلْبَ إِذَا ضُرِبَ انْتَهَى، وَالْبَازِيَ لَا يُضْرَبُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْجَارِحَ إِذَا شَرِبَ مِنَ الدَّمِ أُكِلَ الصَّيْدَ، وَكَرِهَ ذَلِكَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إِذَا انْفَلَتَ مِنْ صَاحِبِهِ فَصَادَ مِنْ غَيْرِ إِرْسَالٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَكْلُ مَا صَادَ. وَقَالَ عَلِيٌّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ: إِنْ كَانَ أَخْرَجَهُ صَاحِبُهُ لِلصَّيْدِ جَازَ أَكْلُ مَا صَادَ. وَمِمَّنْ مَنَعَ مِنْ أَكْلِهِ إِذَا صَادَ مِنْ غَيْرِ إِرْسَالِ صَاحِبِهِ: رَبِيعَةُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ.

وَالظَّاهِرُ جَوَازُ أَكْلِ مَا قَتَلَهُ الْكَلْبُ بِفَمِهِ مِنْ غَيْرِ جُرْحٍ لِعُمُومِ مِمَّا أَمْسَكْنَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ:

لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ مَيِّتٌ.

<<  <  ج: ص:  >  >>