للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قَوْمِهِ وَتَلَوُّنِهِمْ مَعَ طُولِ الصُّحْبَةِ، فَلَمْ يَذْكُرْ إِلَّا النَّبِيَّ الْمَعْصُومَ الَّذِي لَا شُبْهَةَ فِي ثَبَاتِهِ. قِيلَ:

أَوْ قَالَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الضجر عند ما سَمِعَ مِنْهُمْ تَعْلِيلًا لِمَنْ يُوَافِقُهُ، أَوْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: وَأَخِي، مَنْ يُوَافِقُنِي فِي الدِّينِ لَا هَارُونَ خَاصَّةً. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي بِفَتْحِ الْيَاءِ فِيهِمَا.

فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ دَعَا بِأَنْ يُفَرِّقَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَهُمْ بِأَنْ يَفْقِدَ وُجُوهَهُمْ وَلَا يُشَاهِدَ صُوَرَهُمْ إِذَا كَانُوا عَاصِينَ لَهُ مُخَالِفِينَ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلِذَلِكَ نَبَّهَ عَلَى الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْفُسَّقِ. فَالْمُطِيعُ لَا يُرِيدُ صُحْبَةَ الْفَاسِقِ وَلَا يُؤْثِرُهَا لِئَلَّا يُصِيبَهُ بِالصُّحْبَةِ مَا يُصِيبُهُ، وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً «١» «أَنَهْلَكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ» وَقَبِلَ اللَّهُ دُعَاءَهُ فَلَمْ يَكُونَا مَعَهُمْ فِي التِّيهِ، بَلْ فَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ، لِأَنَّ التِّيهَ كَانَ عِقَابًا خُصَّ بِهِ الْفَاسِقُونَ الْعَاصُونَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ وَغَيْرُهُمَا: الْمَعْنَى فَافْصِلْ بَيْنَنَا بِحُكْمٍ يُزِيلُ هَذَا الِاخْتِلَافَ وَيَلُمُّ الشَّعَثَ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فِي الْآخِرَةِ حَتَّى تَكُونَ مَنْزِلَةُ الْمُطِيعِ مُفَارَقَةً لِمَنْزِلَةِ الْعَاصِي الْفَاسِقِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَافْصِلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ بِأَنْ تَحْكُمَ لَنَا بِمَا نَسْتَحِقُّ، وَعَلَيْهِمْ بِمَا يَسْتَحِقُّونَ، وَهُوَ فِي مَعْنَى الدُّعَاءِ عَلَيْهِمْ، وَلِذَلِكَ وَصَلَ بِهِ قَوْلَهُ: فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ، عَلَى وَجْهِ التَّشْبِيهِ. وَقَرَأَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ وَيُوسُفُ بْنُ دَاوُدَ: فَافْرِقْ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَقَالَ الرَّاجِزُ:

يَا رَبِّ فَافْرِقْ بَيْنَهُ وبيني ... أشدّ ما فرّق بَيْنَ اثْنَيْنِ

وَقَرَأَ ابْنُ السُّمَيْفِعِ: فَفَرِّقْ. وَالْفَاسِقُونَ هُنَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْعَاصُونَ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ:

الْكَاذِبُونَ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْكَافِرُونَ.

قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ أَيْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فَأُضْمِرَ فِي قَالَ وَضَمِيرُ، فَإِنَّهَا إِلَى الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ، أَيْ مُحَرَّمٌ دُخُولُهَا وَتَمَلُّكُهُمْ إِيَّاهَا وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى انْتِظَامِ قَوْلِهِ: كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ «٢» مَعَ قَوْلِهِ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ، وَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهُمْ بَعْدَ الْأَرْبَعِينَ لَا تَكُونُ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِمْ.

فَرُوِيَ أَنَّ مُوسَى وَهَارُونَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ كَانَا مَعَهُمْ فِي التِّيهِ عُقُوبَةً لَهُمْ وَرَوْحًا وَسَلَامًا لَهُمَا، لَا عُقُوبَةً، كَمَا كَانَتِ النَّارُ لِإِبْرَاهِيمَ وَلِمَلَائِكَةِ الْعَذَابِ.

فَرُوِيَ أَنَّ مُوسَى سَارَ بَعْدَ الْأَرْبَعِينَ بِمَنْ بَقِيَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَكَانَ يُوشَعُ وَكَالِبُ عَلَى مُقَدَّمَتِهِ، فَفَتَحَ أَرِيحَا وَقَتَلَ عُوجَ بْنَ عُنُقَ

، وَذَكَرُوا مِنْ وَصْفِ عُوجَ وَكَيْفِيَّةِ قَتْلِ مُوسَى لَهُ مَا لَا يَصِحُّ. وَأَقَامَ مُوسَى فِيهَا مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ قُبِضَ. وَقِيلَ: مَاتَ هارون في


(١) سورة الأنفال: ٨/ ٢٥.
(٢) سورة المائدة: ٥/ ٢١.

<<  <  ج: ص:  >  >>