للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مِنَ الْمُعَظَّمِ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ نَظَائِرُ لِهَذَا، منها: وَقُلْنا يَا آدَمُ اسْكُنْ «١» ، وَقُلْنَا اهْبِطُوا «٢» ، قُلْنا يَا نارُ كُونِي بَرْداً «٣» ، وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: اسْكُنُوا الْأَرْضَ «٤» ، وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ «٥» ، وَقُلْنا لَهُمْ لَا تَعْدُوا «٦» . فَأَنْتَ تَرَى هَذَا الْأَمْرَ وَهَذَا النَّهْيَ كَيْفَ تَقَدَّمَهُمَا الْفِعْلُ الْمُسْنَدُ إِلَى الْمُتَكَلِّمِ الْمُعَظِّمِ نَفْسَهُ، لِأَنَّ الْآمِرَ اقْتَضَى الِاسْتِعْلَاءَ عَلَى الْمَأْمُورِ، فَظَهَرَ لِلْمَأْمُورِ بِصِفَةِ الْعَظَمَةِ، وَلَا أَعْظَمَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْمَأْمُورُونَ بِالسُّجُودِ، قَالَ السُّدِّيُّ: عَامَّةُ الْمَلَائِكَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ يَحْكُمُونَ فِي الْأَرْضِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لِلْمَلَائِكَةِ بِجَرِّ التَّاءِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ يَزِيدُ بْنُ الْقَعْقَاعِ وَسُلَيْمَانُ بْنُ مِهْرَانَ: بِضَمِّ التَّاءِ، إِتْبَاعًا لِحَرَكَةِ الْجِيمِ وَنُقِلَ أنها لغة أزدشنوءة. قَالَ الزَّجَّاجُ: هَذَا غَلَطٌ مِنْ أَبِي جَعْفَرٍ، وَقَالَ الْفَارِسِيُّ: هَذَا خَطَأٌ، وَقَالَ ابْنُ جِنِّي: لِأَنَّ كَسْرَةَ التَّاءِ كَسْرَةُ إِعْرَابٍ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ هَذَا الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو جَعْفَرٍ، إِذَا كَانَ مَا قَبْلَ الْهَمْزَةِ سَاكِنًا صَحِيحًا نَحْوَ:

وَقالَتِ اخْرُجْ «٧» . وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَا يَجُوزُ لاستهلاك الْحَرَكَةِ الْإِعْرَابِيَّةِ بِحَرَكَةِ الْإِتْبَاعِ إِلَّا فِي لُغَةٍ ضَعِيفَةٍ كَقَوْلِهِمْ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فِي لُغَةٍ ضَعِيفَةٍ، وَقَدْ نقل أنها لغة أزدشنوءة، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُخَطَّأَ الْقَارِئُ بِهَا وَلَا يُغَلَّطَ، وَالْقَارِئُ بِهَا أَبُو جَعْفَرٍ، أَحَدُ الْقُرَّاءِ الْمَشَاهِيرِ الَّذِينَ أَخَذُوا الْقُرْآنَ عَرْضًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَهُوَ شَيْخُ نَافِعِ بْنِ أَبِي نُعَيْمٍ، أَحَدِ الْقُرَّاءِ السَّبْعَةِ، وَقَدْ عَلَّلَ ضَمَّ التَّاءِ لِشِبْهِهَا بِأَلِفِ الْوَصْلِ، وَوَجْهُ الشَّبَهِ أَنَّ الْهَمْزَةَ تَسْقُطُ فِي الدَّرَجِ لِكَوْنِهَا لَيْسَتْ بِأَصْلٍ، وَالتَّاءُ فِي الْمَلَائِكَةِ تَسْقُطُ أَيْضًا لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِأَصْلٍ. أَلَا تَرَاهُمْ قَالُوا: الْمَلَائِكُ؟ وَقِيلَ: ضُمَّتْ لِأَنَّ الْعَرَبَ تَكْرَهُ الضَّمَّةَ بَعْدَ الْكَسْرَةِ لِثِقَلِهَا.

اسْجُدُوا: أَمْرٌ، وَتَقْتَضِي هَذِهِ الصِّيغَةُ طَلَبَ إِيقَاعِ الْفِعْلِ فِي الزَّمَانِ الْمُطْلَقِ اسْتِقْبَالُهُ، وَلَا تُدُلُّ بِالْوَضْعِ عَلَى الْفَوْرِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الطَّيِّبِ، وَاخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ وَالرَّازِيُّ خِلَافًا لِلْمَالِكِيَّةِ مِنْ أَهْلِ بَغْدَادَ، وَأَبِي حَنِيفَةَ وَمُتَّبِعِيهِ. وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ يُبْحَثُ فِيهَا فِي أُصُولِ الفقه، وهذ الْخِلَافُ إِنَّمَا هُوَ حَيْثُ لَا تَدُلُّ قَرِينَةٌ عَلَى فَوْرٍ أَوْ تَأْخِيرٍ.

وَأَمَّا هُنَا فَالْعَطْفُ بِالْفَاءِ يَدُلُّ عَلَى تَعْقِيبِ الْقَوْلِ بِالْفِعْلِ مِنْ غَيْرِ مُهْلَةٍ، فَتَكُونُ الملائكة قد


(١) سورة البقرة: ٢/ ٣٥.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ٣٦.
(٣) سورة الأنبياء: ٢١/ ٦٩.
(٤) سورة الإسراء: ١٧/ ١٠٤.
(٥) سورة النساء: ٤/ ١٥٠.
(٦) سورة النساء: ٤/ ١٥٤.
(٧) سورة يوسف: ١٢/ ٣١.

<<  <  ج: ص:  >  >>