للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ «١» مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً «٢» أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ «٣» مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ «٤» . وَحَكَى الْمُتَكَلِّمُونَ عَنِ النَّصَارَى أَنَّهُمْ يَقُولُونَ:

جَوْهَرٌ وَاحِدٌ ثَلَاثَةُ أَقَانِيمَ: أَبٌ، وَابْنٌ، وَرُوحُ قُدُسٍ. وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ إِلَهٌ وَاحِدٌ، كَمَا أَنَّ الشَّمْسَ تَتَنَاوَلُ الْقُرْصَ وَالشُّعَاعَ وَالْحَرَارَةَ، وَعَنَوْا بِالْأَبِ الذَّاتَ، وَبِالِابْنِ الْكَلِمَةَ، وَبِالرُّوحِ الْحَيَاةَ. وَأَثْبَتُوا الذَّاتَ وَالْكَلِمَةَ وَالْحَيَاةَ وَقَالُوا: إِنَّ الْكَلِمَةَ الَّتِي هِيَ كَلَامُ اللَّهِ اخْتَلَطَتْ بِجَسَدِ عِيسَى اخْتِلَاطَ الْمَاءِ بِالْخَمْرِ، أَوِ اخْتِلَاطَ اللَّبَنِ بِالْمَاءِ، وَزَعَمُوا أَنَّ الْأَبَ إِلَهٌ، وَالِابْنَ إِلَهٌ، وَالرُّوحَ إِلَهٌ، وَالْكُلُّ إِلَهٌ وَاحِدٌ. وَهَذَا مَعْلُومُ الْبُطْلَانِ بِبَدِيهَةِ الْعَقْلِ أَنَّ الثَّلَاثَةَ لَا تَكُونُ وَاحِدًا، وَأَنَّ الْوَاحِدَ لَا يَكُونُ ثَلَاثَةً، وَلَا يَجُوزُ فِي الْعَرَبِيَّةِ فِي ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ إِلَّا الْإِضَافَةُ، لِأَنَّكَ لَا تَقُولُ ثَلَّثْتُ الثَّلَاثَةَ. وَأَجَازَ النَّصْبَ فِي الَّذِي يَلِي اسْمَ الْفَاعِلِ الْمُوَافِقَ لَهُ فِي اللَّفْظِ أحمد بن يحيى ثعلب، وَرَدُّوهُ عَلَيْهِ جَعَلُوهُ كَاسْمِ الْفَاعِلِ مَعَ الْعَدَدِ الْمُخَالِفِ نَحْوَ: رَابِعُ ثَلَاثَةٍ، وَلَيْسَ مِثْلَهُ إِذْ تَقُولُ: رَبَّعْتُ الثَّلَاثَةَ أَيْ صَيَّرْتُهُمْ بِكَ أَرْبَعَةً.

وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ مَعْنَاهُ لَا يَكُونُ إِلَهٌ فِي الْوُجُودِ إِلَّا مُتَّصِفًا بِالْوَحْدَانِيَّةِ، وَأَكَدَّ ذَلِكَ بِزِيَادَةِ مِنِ الِاسْتِغْرَاقِيَّةِ وَحَصْرِ إِلَهِيَّتِهِ فِي صِفَةِ الْوَحْدَانِيَّةِ. وَإِلَهٌ رَفْعٍ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ إِلَهٍ عَلَى الْمَوْضِعِ. وَأَجَازَ الْكِسَائِيُّ إِتْبَاعَهُ عَلَى اللَّفْظِ، لِأَنَّهُ يُجِيزُ زِيَادَةَ مِنْ فِي الْوَاجِبِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَمَا إِلَهٌ فِي الْوُجُودِ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ أَيْ: مَوْصُوفٌ بِالْوَحْدَانِيَّةِ لَا ثَانِيَ لَهُ وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أَيْ عَمَّا يَفْتَرُونَ وَيَعْتَقِدُونَ فِي عِيسَى مِنْ أَنَّهُ هُوَ اللَّهُ، أَوْ أَنَّهُ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ، أَوْعَدَهُمْ بِإِصَابَةِ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا بِالسَّبْيِ وَالْقَتْلِ، وَفِي الْآخِرَةِ بِالْخُلُودِ فِي النَّارِ، وَقَدَّمَ الْوَعِيدَ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِسِمَاتِ الْحُدُوثِ إِبْلَاغًا فِي الزَّجْرِ أَيْ: هَذِهِ الْمَقَالَةُ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ، بِحَيْثُ لَا تَخْتَلِفُ الْعُقُولُ فِي فَسَادِهَا، فَلِذَلِكَ تَوَعَّدَ أَوَّلًا عَلَيْهَا بِالْعَذَابِ، ثُمَّ أَتْبَعَ الْوَعِيدَ بِالِاسْتِدْلَالِ بِسِمَاتِ الْحُدُوثِ عَلَى بُطْلَانِهَا.

وَلَيَمَسَّنَّ: اللَّامُ فِيهِ جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ قَبْلَ أَدَاةِ الشَّرْطِ، وَأَكْثَرُ مَا يَجِيءُ هَذَا التَّرْكِيبُ وَقَدْ صَحِبَتْ إِنِ اللام المؤذنة بالقسم المحذوف كقوله:


(١) سورة المائدة: ٥/ ١١٦.
(٢) سورة الجن: ٧٢/ ٣. [.....]
(٣) سورة الأنعام: ٦/ ١٠١.
(٤) سورة المؤمنون: ٢٣/ ٩١.

<<  <  ج: ص:  >  >>