للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فِي الْمَوَاضِعِ الطَّيِّبَةِ لَا تَدْخُلُ تَحْتَ التَّعَبُّدِ، وَقِيلَ: هُوَ أَمْرُ وُجُوبٍ وَتَكْلِيفٍ، لِأَنَّهُ أَمْرٌ بِسُكْنَى الْجَنَّةِ، وَبِأَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا، وَنَهَاهُ عَنْ شَجَرَةٍ وَاحِدَةٍ. وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْأَمْرَ بِالسُّكْنَى وَمَا بَعْدَهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى مَا هُوَ إِبَاحَةٌ، وَهُوَ الِانْتِفَاعُ بِجَمِيعِ نَعِيمِ الْجَنَّةِ، وَعَلَى مَا هُوَ تَكْلِيفٌ، وَهُوَ مَنْعُهُ مِنْ تَنَاوُلِ مَا نُهِى عَنْهُ. وَأَنْتَ: تَوْكِيدٌ لِلضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِ فِي اسْكُنْ، وَهَذَا أَحَدُ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَسْتَكِنُ فِيهَا الضَّمِيرُ وُجُوبًا. وَزَوْجُكَ: مَعْطُوفٌ عَلَى ذَلِكَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِ، وَحَسَّنَ الْعَطْفَ عَلَيْهِ تَأْكِيدُهُ بِأَنْتَ، وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ الْعَطْفُ عَلَيْهِ دُونَ تَأْكِيدٍ أَوْ فَصْلٍ يَقُومُ مَقَامَ التَّأْكِيدِ، أَوْ فَصْلٍ بِلَا بَيْنَ حَرْفِ الْعَطْفِ وَالْمَعْطُوفِ، وَمَا سوى ذلك ضرورة وشاذ. وَقَدْ رُوِيَ: قُمْ وَزَيْدٌ، وَأَجَازَ الْكُوفِيُّونَ الْعَطْفَ عَلَى ذَلِكَ الضَّمِيرِ مِنْ غَيْرِ تَوْكِيدٍ وَلَا فَصْلٍ.

وَتَظَافَرَتْ نُصُوصُ النَّحْوِيِّينَ وَالْمُعْرِبِينَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ وَزَوْجُكَ مَعْطُوفٌ عَلَى الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِ فِي اسْكُنْ، وَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ مِنْ عَطْفِ الْمُفْرَدَاتِ. وَزَعَمَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ، التَّقْدِيرُ: وَلْتُسْكِنْ زَوْجَكَ، وَحَذَفَ: وَلْتُسْكِنْ، لِدَلَالَةِ اسْكُنْ عَلَيْهِ، وَأَتَى بِنَظَائِرَ مِنْ هَذَا الْبَابِ نَحْوَ: لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ، وَنَحْوَ: تَقُومُ أَنْتَ وَزَيْدٌ، وَنَحْوَ: ادْخُلُوا أَوَّلُكُمْ وَآخِرُكُمْ، وَقَوْلُهُ:

نَطُوفُ مَا نَطُوفُ ثُمَّ يَأْوِي ... ذَوُو الْأَمْوَالِ مِنَّا وَالْعَدِيمُ

إِذَا أَعْرَبْنَاهُ بَدَلًا لَا تَوْكِيدًا، هُوَ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ، فَتَقْدِيرُهُ عِنْدَهُ، وَلَا تُخْلِفُهُ أَنْتَ، وَيَقُومُ زَيْدٌ، وَلْيَدْخُلْ أَوَّلُكُمْ وَآخِرُكُمْ، وَيَأْوِي ذَوُو الْأَمْوَالِ. وَزَعَمَ أَنَّهُ اسْتَخْرَجَ ذَلِكَ مِنْ نَصِّ كَلَامِ سِيبَوَيْهِ، وَلَيْسَ كَمَا زَعَمَ بَلْ نَصَّ سِيبَوَيْهِ عَلَى مَسْأَلَةِ الْعَطْفِ فِي كِتَابِهِ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ النَّحْوِيُّونَ. قَالَ سِيبَوَيْهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ: وَأَمَّا مَا يَقْبُحُ أَنْ يُشْرِكَهُ الْمُظْهَرُ فَهُوَ الضَّمِيرُ الْمَرْفُوعُ، وَذَلِكَ فَعَلْتُ وَعَبْدُ اللَّهِ، وَأَفْعَلُ وَعَبْدُ اللَّهِ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعْلِيلَ الْخَلِيلِ لِقُبْحِهِ، ثم قال: فإن نَعْتُهُ حَسَنٌ أَنْ يُشْرِكَهُ الْمُظْهَرُ، وَذَلِكَ قَوْلُكَ: ذَهَبْتَ أَنْتَ وَزَيْدٌ. وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا «١» واسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ، انْتَهَى.

فَهَذَا نَصٌّ مِنْ سِيبَوَيْهِ عَلَى أَنَّهُ مَنْ عَطَفَ الْمُظْهَرَ عَلَى الْمُضْمَرِ، وَقَدْ أَجْمَعَ النَّحْوِيُّونَ عَلَى جَوَازِ: تَقُومُ عَائِشَةٌ وَزَيْدٌ، وَلَا يُمْكِنُ لِزَيْدٍ أَنْ يُبَاشِرَ الْعَامِلَ، وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا أَنَّ هَذَا مِنْ عَطْفِ الْمُفْرَدَاتِ. وَلِتَكْمِيلِ الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَكَانٌ غَيْرُ هَذَا، وَتَوَجُّهُ الْأَمْرِ بِالسُّكْنَى عَلَى زَوْجِ آدَمَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَهُ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهَا خُلِقَتْ مِنْ


(١) سورة المائدة: ٥/ ٢٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>