للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لَوْ عَايَنَتْ رُهْبَانَ دِيرٍ فِي الْقَلَلْ ... تَحَدَّرَ الرُّهْبَانُ تَمْشِي وَتَزَلْ

وَيُرْوَى وَنَزَلْ، وَالْقِسِّيسُ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الْمُفْرَدَاتِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هُوَ رَأْسُ الرُّهْبَانِ. وَقِيلَ: الْعَالِمُ. وَقِيلَ: رَافِعُ الصَّوْتِ بِالْقِرَاءَةِ. وَقِيلَ: الصِّدِّيقُ، وَفِي هَذَا التَّعْلِيلِ دَلِيلٌ عَلَى جَلَالَةِ الْعِلْمِ، وَأَنَّهُ سَبِيلٌ إِلَى الْهِدَايَةِ، وَعَلَى حُسْنِ عَاقِبَةِ الِانْقِطَاعِ، وَأَنَّهُ طَرِيقٌ إِلَى النَّظَرِ فِي الْعَاقِبَةِ عَلَى التَّوَاضُعِ، وَأَنَّهُ سَبَبٌ لِتَعْظِيمِ الْمُوَحِّدِ إِذْ يَشْهَدُ مِنْ نَفْسِهِ وَمِنْ كُلِّ مُحْدَثٍ أَنَّهُ مُفْتَقِرٌ لِلْمُوجِدِ فَيَعْظُمُ عِنْدَ مُخْتَرِعِ الْأَشْيَاءِ الْبَارِئِ وَإِذا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ هَذَا وَصْفٌ بِرِقَّةِ الْقُلُوبِ وَالتَّأَثُّرِ بِسَمَاعِ الْقُرْآنِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ يَعُودُ عَلَى قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا فَيَكُونُ عَامًّا، وَيَكُونُ قَدْ أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِمَا يَقَعُ مِنْ بَعْضِهِمْ كَمَا جَرَى لِلنَّجَاشِيِّ حَيْثُ تَلَا عَلَيْهِ جَعْفَرٌ سُورَةَ مَرْيَمَ إِلَى قَوْلِهِ ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ «١» وَسُورَةُ طه إِلَى قَوْلِهِ وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى «٢» فَبَكَى وَكَذَلِكَ قَوْمُهُ الَّذِينَ وَفَدُوا عَلَى الرَّسُولِ حِينَ قَرَأَ عَلَيْهَا يس فَبَكَوْا.

وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ مَا مَعْنَاهُ: صَدْرُ الْآيَةِ عَامٌّ فِي النصارى وإِذا سَمِعُوا عَامٌّ فِي مَنْ آمَنَ مِنَ الْقَادِمِينَ مِنْ أَرْضِ الْحَبَشَةِ، إِذْ لَيْسَ كُلُّ النَّصَارَى يَفْعَلُ ذَلِكَ، بَلْ هُمُ الَّذِينَ بَعَثَهُمُ النَّجَاشِيُّ لِيَرَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَسْمَعُوا مَا عِنْدَهُ، فَلَمَّا رَأَوْهُ وَتَلَا عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ فَاضَتْ أَعْيُنُهُمْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى، انْتَهَى.

وَقَالَ السُّدِّيُّ: لَمَّا رَجَعُوا إِلَى النَّجَاشِيِّ آمَنَ وَهَاجَرَ بِمَنْ مَعَهُ فَمَاتَ فِي الطَّرِيقِ، فَصَلَّى عَلَيْهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ وَاسْتَغْفَرُوا لَهُ

، وتَرى مِنْ رُؤْيَةِ الْعَيْنِ وَأَسْنَدَ الْفَيْضَ إِلَى الْأَعْيُنِ وَإِنْ كَانَ حَقِيقَةً لِلدُّمُوعِ كَمَا قَالَ:

فَفَاضَتْ دُمُوعُ الْعَيْنِ مِنِّي صَبَابَةً إِقَامَةً لِلْمُسَبَّبِ مَقَامَ السَّبَبِ، لِأَنَّ الْفَيْضَ مُسَبَّبٌ عَنِ الِامْتِلَاءِ، فَالْأَصْلُ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَمْتَلِئُ مِنَ الدَّمْعِ حَتَّى تَفِيضَ، لِأَنَّ الْفَيْضَ عَلَى جَوَانِبِ الْإِنَاءِ نَاشِئٌ عَنِ امْتِلَائِهِ، قَالَ الشَّاعِرُ:

قَوَارِضُ تَأْتِينِي وَيَحْتَقِرُونَهَا ... وَقَدْ يَمْلَأُ الْمَاءُ الْإِنَاءَ فَيَفْعُمُ

وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَسْنَدَ الْفَيْضَ إِلَى الْأَعْيُنِ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْبُكَاءِ لَمَّا كَانَتْ تفاض


(١) سورة مريم: ١٩/ ٣٤.
(٢) سورة طه: ٢/ ٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>