كَوْنِ أَنْ مُفَسِّرَةً لَا يَصِحُّ لِأَنَّهَا جَاءَتْ بَعْدَ إِلَّا، وَكُلُّ مَا كَانَ بَعْدَ إِلَّا الْمُسْتَثْنَى بِهَا فلابدّ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَوْضِعٌ مِنَ الْإِعْرَابِ وَأَنْ التَّفْسِيرِيَّةُ لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ، وَانْظُرْ إِلَى مَا تَضَمَّنَتْ مُحَاوَرَةُ عِيسَى وَجَوَابُهُ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى لَمَّا قَرَعَ سَمْعَهُ مَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ نَزَّهَ اللَّهَ تَعَالَى وَبَرَّأَهُ مِنَ السُّوءِ، وَمِنْ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ شَرِيكٌ ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَقُولَ مَا لَيْسَ لَهُ بِحَقٍّ، فَأَتَى بِنَفْيِ لَفْظٍ عَامٍّ، وَهُوَ لَفْظُ مَا الْمُنْدَرِجُ تَحْتَهُ كُلُّ قَوْلٍ لَيْسَ بِحَقٍّ حَتَّى هَذَا الْقَوْلِ الْمُعَيَّنِ، ثم تبرأ تبرؤا ثَالِثًا وَهُوَ إِحَالَةُ ذَلِكَ عَلَى عِلْمِهِ تَعَالَى وَتَفْوِيضُ ذَلِكَ إِلَيْهِ، وَعِيسَى يَعْلَمُ أَنَّهُ مَا قَالَهُ، ثُمَّ لَمَّا أَحَالَ عَلَى الْعِلْمِ أَثْبَتَ عِلْمَ اللَّهِ بِهِ وَنَفَى عِلْمَهُ بِمَا هُوَ لِلَّهِ وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَهْجِسَ ذَلِكَ فِي خَاطِرِي فَضْلًا عَنْ أَنْ أَفُوهَ بِهِ وَأَقُولَهُ، فَصَارَ مَجْمُوعُ ذَلِكَ نَفْيَ هَذَا الْقَوْلِ، وَنَفْيَ أَنْ يَهْجِسَ فِي النَّفْسِ، ثُمَّ عَلَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ تَعَالَى مُسْتَأْثِرٌ بِعِلْمِ الْغَيْبِ، ثُمَّ لَمَّا نَزَّهَ اللَّهَ تَعَالَى وَانْتَفَى عَنْهُ قَوْلُ ذَلِكَ وَأَنْ يَخْطُرَ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ انْتَقَلَ إِلَى مَا قَالَهُ لَهُمْ فأتى به محصورا بإلا مَعْذُوقًا بِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُبَلِّغَهُمْ عَنْهُ.
وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ أَيْ رَقِيبًا كَالشَّاهِدِ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، أَمْنَعُهُمْ مِنْ قَوْلِ ذَلِكَ وَأَنْ يَتَدَيَّنُوا بِهِ، وَأَتَى بِصِيغَةِ فَعِيلٍ لِلْمُبَالَغَةِ كَثِيرُ الْحِفْظِ عَلَيْهِمْ وَالْمُلَازَمَةِ لَهُمْ وَمَا ظَرْفِيَّةٌ وَدَامَ تَامَّةٌ أَيْ مَا بَقِيتُ فِيهِمْ، أَيْ شَهِيدًا فِي الدُّنْيَا.
فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي قِيلَ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَوَفَّاهُ وَفَاةَ الْمَوْتِ قَبْلَ أَنْ يَرْفَعَهُ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ الْأَخْبَارَ تَظَافَرَتْ بِرَفْعِهِ حَيًّا، وَأَنَّهُ فِي السَّمَاءِ حَيٌّ وَأَنَّهُ يَنْزِلُ وَيَقْتُلُ الدَّجَّالَ، وَمَعْنَى تَوَفَّيْتَنِي قَبَضْتَنِي إِلَيْكَ بِالرَّفْعِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْوَفَاةُ وَفَاةُ الْمَوْتِ وَوَفَاةُ النَّوْمِ وَوَفَاةُ الرَّفْعِ.
وقال الزَّمَخْشَرِيُّ: كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ تَمْنَعُهُمْ مِنَ الْقَوْلِ بِهِ بِمَا نَصَبْتَ لَهُمْ مِنَ الْأَدِلَّةِ، وَأَنْزَلْتَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَأَرْسَلْتَ إِلَيْهِمُ الرُّسُلَ انْتَهَى وَفِيهِ دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ.
إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَالَّذِينَ عَذَّبْتَهُمْ جَاحِدِينَ لِآيَاتِكَ، مُكَذِّبِينَ لِأَنْبِيَائِكَ، وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْقَوِيُّ عَلَى الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ الْحَكِيمُ الَّذِي لَا يُثِيبُ وَلَا يُعَاقِبُ إِلَّا عَنْ حِكْمَةٍ وَصَوَابٍ.
(فَإِنْ قُلْتَ) : الْمَغْفِرَةُ لَا تَكُونُ لِلْكُفَّارِ، فَكَيْفَ قَالَ: وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ؟ (قُلْتُ) : مَا قَالَ: إِنَّكَ تَغْفِرُ لَهُمْ وَلَكِنَّهُ بَنَى الْكَلَامَ عَلَى أَنْ يُقَالَ: إِنْ عَذَّبْتَهُمْ عَدَلْتَ لِأَنَّهُمْ أَحِقَّاءُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute