أَنْزَلَ اللَّهُ
يَقْضِي بِأَنَّهُمْ جَهِلُوا وَلَمْ يَعْرِفُوا اللَّهَ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ إِذْ أَحَالُوا عَلَيْهِ بِعْثَةَ الرُّسُلِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَا عَرَفُوا اللَّهَ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ فِي الرَّحْمَةِ عَلَى عِبَادِهِ وَاللُّطْفِ بِهِمْ حِينَ أَنْكَرُوا بِعْثَةَ الرُّسُلِ وَالْوَحْيَ إِلَيْهِمْ، وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ رَحْمَتِهِ وَأَجَلِّ نِعْمَتِهِ وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ «١» أَوْ مَا عَرَفُوهُ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ فِي سُخْطِهِ عَلَى الْكَافِرِينَ وَشِدَّةِ بَطْشِهِ بِهِمْ وَلَمْ يَخَافُوهُ حِينَ جَسَرُوا عَلَى تِلْكَ الْمَقَالَةِ الْعَظِيمَةِ مِنْ إِنْكَارِ النُّبُوَّةِ، وَالْقَائِلُونَ هُمُ الْيَهُودُ بِدَلِيلِ قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ تَجْعَلُونَهُ بالتاء وكذلك تُبْدُونَها وتُخْفُونَ وَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ مُبَالَغَةً فِي إِنْكَارِ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُلْزِمُوا مَا لَا بُدَّ لَهُمْ مِنَ الْإِقْرَارِ بِهِ مِنْ إِنْزَالِ التَّوْرَاةِ عَلَى مُوسَى. انْتَهَى، وَالضَّمِيرُ فِي وَما قَدَرُوا عَائِدٌ عَلَى مَنْ أُنْزِلَتِ الْآيَةُ بِسَبَبِهِ عَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ وَيَلْزَمُ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ تَكُونَ مَدَنِيَّةً وَلِذَا حَكَى النِّقَاشُ أَنَّهَا مَدَنِيَّةُ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَعِيسَى الثَّقَفِيُّ وَما قَدَرُوا بِالتَّشْدِيدِ حَقَّ قَدْرِهِ بِفَتْحِ الدَّالِّ وَانْتَصَبَ حَقَّ قَدْرِهِ عَلَى الْمَصْدَرِ وَهُوَ فِي الْأَصْلِ وَصْفٌ أَيْ قَدَّرَهُ الْحَقَّ وَوَصَفُ الْمُصَدِّرِ إِذَا أُضِيفَ إِلَيْهِ انْتَصَبَ نَصْبَ الْمَصْدَرِ، وَالْعَامِلُ فِي إِذْ قَدَرُوا وَفِي كَلَامِ ابْنِ عَطِيَّةَ مَا يُشْعِرُ أَنَّ إِذْ تعليلا.
قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ إِنْ كَانَ الْمُنْكِرُونَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَالِاحْتِجَاجُ عَلَيْهِمْ وَاضِحٌ لِأَنَّهُمْ مُلْتَزِمُونَ نُزُولَ الْكِتَابِ عَلَى مُوسَى وَإِنْ كَانُوا الْعَرَبَ فَوَجْهُ الِاحْتِجَاجِ عَلَيْهِمْ أَنَّ إِنْزَالَ الْكِتَابِ عَلَى مُوسَى أَمْرٌ مَشْهُورٌ مَنْقُولٌ، نَقْلَ قَوْمٍ لَمْ تَكُنِ الْعَرَبُ مُكَذِّبَةً لَهُمْ وَكَانُوا يَقُولُونَ: لو أنا أنزل علينا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ، وَقَالَ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَّالِيُّ: هَذِهِ الْآيَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الشَّكْلِ الثَّانِي مِنَ الْأَشْكَالِ الْمَنْطِقِيَّةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ حَاصِلَهُ يَرْجِعُ إِلَى أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أُنْزِلَ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَاحِدٌ مِنَ الْبَشَرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ شَيْئًا يَنْتِجُ مِنَ الشَّكْلِ الثَّانِي أَنَّ مُوسَى مَا كَانَ مِنَ الْبَشَرِ، وَهَذَا خَلْفٌ مُحَالٌ وَلَيْسَتْ هَذِهِ الِاسْتِحَالَةُ بِحَسْبَ شَكْلِ الْقِيَاسِ وَلَا بِحَسْبِ صِحَّةِ الْمُقَدِّمَةِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنَّهُ لَزِمَ مِنْ فَرْضِ صِحَّةِ الْمُقَدِّمَةِ وَهِيَ قَوْلُهُمْ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِكَوْنِهَا كَاذِبَةٌ فَتَمُتُّ أَنَّ دَلَالَةَ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الْمَطْلُوبِ إِنَّمَا تَصِحُّ عِنْدَ الِاعْتِرَافِ بِصِحَّةِ الشَّكْلِ الثَّانِي مِنَ الْأَشْكَالِ الْمَنْطِقِيَّةِ وَعِنْدَ الِاعْتِرَافِ بِصِحَّةِ قِيَاسِ الْخَلْفِ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّقْضَ يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ الْكَلَامِ وَذَلِكَ أَنَّهُ نَقَضَ قَوْلَهُمْ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ فَلَوْ لَمْ يَكُنِ النَّقْضُ دَلِيلًا عَلَى فَسَادِ الْكَلَامِ لَمَا كَانَتْ حُجَّةً مُفِيدَةً لهذا
(١) سورة الأنبياء: ٢١/ ١٠٧.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute