للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ذَلِكَ لِمَا فِي مُوَاجَهَتِهِ وَحْدَهُ بِالنَّهْيِ مِنْ خِلَافَ مَا كَانَ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الْأَخْلَاقِ الْكَرِيمَةِ، إِذْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَحَّاشًا وَلَا صَخَّابًا وَلَا سَبَّابًا فَلِذَلِكَ جَاءَ الْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ فَقِيلَ: وَلا تَسُبُّوا وَلَمْ يَكُنِ التَّرْكِيبُ وَلَا تَسُبَّ كَمَا جَاءَ وَأَعْرِضْ وَإِذَا كَانَتِ الطَّاعَةُ تُؤَدِّي إِلَى مَفْسَدَةٍ خَرَجَتْ عَنْ أَنْ تَكُونَ طَاعَةً فَيَجِبُ النَّهْيُ عَنْهَا كَمَا يُنْهَى عَنِ المعصية.

والَّذِينَ يَدْعُونَ هُمُ الْأَصْنَامُ أَيْ يَدْعُونَهُمُ الْمُشْرِكُونَ وَعَبَّرَ عَنِ الْأَصْنَامِ وَهِيَ لَا تَعْقِلُ بِالَّذِينِ كَمَا يُعَبَّرُ عَنِ الْعَاقِلِ عَلَى مُعَامَلَةِ مَا لَا يَعْقِلُ مُعَامَلَةَ مَنْ يَعْقِلُ، إِذْ كَانُوا يُنْزِلُونَهُمْ مَنْزِلَةَ مَنْ يَعْقِلُ فِي عِبَادَتِهِمْ وَاعْتِقَادِهِمْ فِيهِمْ أَنَّهُمْ شُفَعَاءُ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِ الَّذِينَ يَدْعُونَ الْكُفَّارُ وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: فَيَسُبُّوا اللَّهَ أَنَّهُمْ يُقْدِمُونَ عَلَى سب الله إذا سبت آلِهَتَهُمْ وَإِنْ كَانُوا مُعْتَرِفِينَ بِاللَّهِ تَعَالَى، لَكِنْ يَحْمِلُهُمْ عَلَى ذَلِكَ انْتِصَارُهُمْ لِآلِهَتِهِمْ وَشَدَّةُ غَيْظِهِمْ لِأَجْلِهَا فَيَخْرُجُونَ عَنْ الِاعْتِدَالِ إِلَى مَا يُنَافِي الْعَقْلَ كَمَا يَقَعُ مِنْ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ إِذَا اشْتَدَّ غَضَبُهُ وَانْحَرَفَ فَإِنَّهُ قَدْ يَلْفِظُ بِمَا يُؤَدِّي إِلَى الْكُفْرِ نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ، وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: رُبَّمَا كَانَ بَعْضُهُمْ قَائِلًا بِالدَّهْرِ وَنَفْيِ الصَّانِعِ فَكَانَ يَأْتِي بِهَذَا النَّوْعِ مِنَ الشَّنَاعَةِ أَوْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَسُبُّونَ الْأَصْنَامَ وَهُمْ كَانُوا يَسُبُّونَ الرَّسُولَ فَأُجْرِيَ سَبُّ الرَّسُولِ مُجْرَى سَبِّ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا قَالَ: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ «١» وَكَمَا قَالَ: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ «٢» أَوْ كَانَ بَعْضُ الْكَفَرَةِ يَعْتَقِدُ أَنْ شَيْطَانًا يَحْمِلُ الرَّسُولَ عَلَى ادِّعَاءِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ وَكَانُوا بِجَهْلِهِمْ يَشْتُمُونَ ذَلِكَ الشَّيْطَانَ بِأَنَّهُ إِلَهُ مُحَمَّدٍ، انْتَهَى. وَهَذِهِ احْتِمَالَاتٌ مُخَالِفَةٌ لِلظَّاهِرِ وَإِنَّمَا أَوْرَدَهَا لِأَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ الْمُعْتَرِفِينَ بِوُجُودِ الصَّانِعِ لَا يَجْسُرُونَ أَنْ يُقْدِمُوا عَلَى سَبِّهِ تَعَالَى، وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا يُحْمَلُ عَلَى حَمَلَ الْكَلَامَ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَقَالَ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ: بِمَعْنَى خَاطِبُوهُمْ بِلِسَانِ الْحُجَّةِ وَإِلْزَامِ الدَّلِيلِ وَلَا تُكَلِّمُوهُمْ عَلَى نَوَازِعِ النَّفْسِ وَالْعَادَةِ وفَيَسُبُّوا مَنْصُوبٌ عَلَى جَوَابِ النَّهْيِ، وَقِيلَ: هُوَ مَجْزُومٌ عَلَى الْعَطْفِ كَقَوْلِكَ: لَا تَمْدُدْهَا فتشققها، وعَدْواً مَصْدَرُ عَدَا وَكَذَا عَدَوَ وَعُدْوَانٍ بِمَعْنَى اعْتَدَى أَيْ ظَلَمَ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو رَجَاءٍ وَقَتَادَةُ وَيَعْقُوبُ وَسَلَّامٌ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَالدَّالِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ وَهُوَ مَصْدَرٌ لِعَدَا كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَجَوَّزُوا فِيهِمَا انْتِصَابَهُمَا عَلَى الْمَصْدَرِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَوْ عَلَى الْمَصْدَرِ مِنْ غَيْرِ لَفْظِ الْفِعْلِ لِأَنَّ سَبَّ اللَّهِ عُدْوَانٌ أَوْ عَلَى الْمَفْعُولِ لَهُ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَرَأَ بَعْضُ الْمَكِّيِّينَ وَعَيَّنَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فَقَالَ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ: بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَضَمِّ الدَّالِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ أَيْ أَعْدَاءً وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ الْمُؤَكِّدَةِ وَعَدُوٌّ يُخْبَرُ به عن الجمع


(١) سورة الفتح: ٤٨/ ١٠.
(٢) سورة الأحزاب: ٣٣/ ٥٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>