للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

التَّكْثِيرُ، وَأَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِلْمُجَرَّدِ. فَإِنْ أُرِيدَ بِهِ التَّكْثِيرُ فَيَكُونُ فِي ذَلِكَ مُبَالَغَةٌ عَلَى لَفْظِ أُوفِ، وَكَأَنَّهُ قِيلَ: أُبَالِغْ فِي إِيفَائِكُمْ، فَضَمِنَ تَعَالَى إِعْطَاءَ الْكَثِيرِ عَلَى الْقَلِيلِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها «١» . وَانْجِزَامُ الْمُضَارِعِ بَعْدَ الْأَمْرِ نَحْوَ: اضْرِبْ زَيْدًا يَغْضَبْ، يَدُلُّ عَلَى مَعْنَى شَرْطٍ سَابِقٍ، وَإِلَّا فَنَفْسُ الْأَمْرِ وَهُوَ طَلَبُ إِيجَادِ الْفِعْلِ لَا يَقْتَضِي شَيْئًا آخَرَ، وَلِذَلِكَ يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهِ فَتَقُولُ: اضْرِبْ زَيْدًا، فَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الطَّلَبِ بِمَا هُوَ طَلَبُ شَيْءٍ أَصْلًا، لَكِنْ إِذَا لُوحِظَ مَعْنَى شَرْطٍ سَابِقٍ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ مُقْتَضَاهُ. وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّحْوِيُّونَ فِي ذَلِكَ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ جُمْلَةَ الْأَمْرِ ضُمِّنَتْ مَعْنَى الشَّرْطِ، فَإِذَا قُلْتَ: اضْرِبْ زَيْدًا يَغْضَبْ، ضُمِّنَ اضْرِبْ مَعْنَى: إِنْ تَضْرِبْ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْأُسْتَاذُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ خَرُوفٍ. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ جُمْلَةَ الْأَمْرِ نَابَتْ مَنَابَ الشَّرْطِ، وَمَعْنَى النِّيَابَةِ أَنَّهُ كَانَ التَّقْدِيرُ: اضْرِبْ زَيْدًا، إِنْ تَضْرِبْ زَيْدًا يَغْضَبْ، ثُمَّ حُذِفَتْ جُمْلَةُ الشَّرْطِ وَأُنِيبَتْ جُمْلَةُ الْأَمْرِ مَنَابَهَا. وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ لَيْسَ ثَمَّ جُمْلَةٌ مَحْذُوفَةٌ، بَلْ عَمِلَتِ الْجُمْلَةُ الْأُولَى الْجَزْمَ لِتَضَمُّنِ الشَّرْطِ، كَمَا عَمِلَتْ مِنْ الشَّرْطِيَّةِ الْجَزْمَ لِتَضَمُّنِهَا مَعْنَى إِنْ. وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي عَمِلَتِ الْجَزْمَ لِنِيَابَتِهَا مَنَابَ الْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ، وَفِي الْحَقِيقَةِ، الْعَمَلُ إِنَّمَا هُوَ لِلشَّرْطِ الْمُقَدَّرِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْفَارِسِيِّ وَالسِّيرَافِيِّ، وَهُوَ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ سِيبَوَيْهِ عَنِ الْخَلِيلِ. وَالتَّرْجِيحُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ يُذْكَرُ فِي عِلْمِ النَّحْوِ.

وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ. إِيَّايَ: مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ مُقَدَّرًا بَعْدَهُ لِانْفِصَالِ الضَّمِيرِ، وَإِيَّايَ ارْهَبُوا، وَحُذِفَ لِدِلَالَةِ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ وَتَقْدِيرُهُ قَبْلَهُ، وَهُمْ مِنَ السَّجَاوِنْدِيِّ، إِذْ قَدَّرَهُ وَارْهَبُوا إِيَّايَ، وَفِي مَجِيئِهِ ضَمِيرُ نَصْبٍ مُنَاسَبَةً لِمَا قَبْلَهُ، لِأَنَّ قَبْلَهُ أَمْرٌ، وَلِأَنَّ فِيهِ تَأْكِيدًا، إِذِ الْكَلَامُ مَفْرُوغٌ فِي قَالَبِ جُمْلَتَيْنِ. وَلَوْ كَانَ ضَمِيرَ رَفْعٍ لَجَازَ، لَكِنْ يَفُوتُ هَذَانِ الْمَعْنَيَانِ.

وَحُذِفَتِ الْيَاءُ ضَمِيرُ النَّصْبِ مِنْ فَارْهَبُونِ لِأَنَّهَا فَاصِلَةٌ، وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ بِالْيَاءِ عَلَى الْأَصْلِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهُوَ أَوْكَدُ فِي إِفَادَةِ الِاخْتِصَاصِ مِنْ إِيَّاكَ نَعْبُدُ. وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ الْكَلَامَ جُمْلَتَانِ فِي التَّقْدِيرِ، وَإِيَّاكَ نَعْبُدُ، جُمْلَةٌ وَاحِدَةٌ، وَالِاخْتِصَاصُ مُسْتَفَادٌ عِنْدَهُ مِنْ تَقْدِيمِ الْمَعْمُولِ عَلَى الْعَامِلِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ مَعَهُ فِي ذَلِكَ، وَأَنَّا لَا نَذْهَبُ إِلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ. وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَارْهَبُونِ، دَخَلَتْ فِي جَوَابِ أَمْرٍ مُقَدَّرٍ، وَالتَّقْدِيرُ: تَنَبَّهُوا فَارْهَبُونِ. وَقَدْ ذَكَرَ سِيبَوَيْهِ فِي كِتَابِهِ مَا نَصُّهُ: تَقُولُ: كُلُّ رَجُلٍ يَأْتِيكَ فَاضْرِبْ، لِأَنَّ يَأْتِيكَ صفة هاهنا، كَأَنَّكَ قُلْتَ: كُلُّ رَجُلٍ صَالِحٍ فَاضْرِبْ، انْتَهَى. قَالَ ابْنُ خَرُوفٍ: قَوْلُهُ كُلَّ رجل


(١) سورة الأنعام: ٦/ ١٦٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>