للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

سُورَةِ النَّحْلِ وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ «١» فَقَالَ: مِنْ دُونِهِ مَرَّتَيْنِ وَقَالَ: نَحْنُ فَأَكَّدَ الضَّمِيرَ لِأَنَّ لَفْظَ الْعِبَادَةِ يَصِحُّ أَنْ يُنْسَبَ إِلَى إِفْرَادِ اللَّهِ بِهَا وَهَذَا لَيْسَ بِمُسْتَنْكَرٍ، بَلِ الْمُسْتَنْكَرُ عِبَادَةُ شَيْءٍ غَيْرِ اللَّهِ أَوْ شَيْءٍ مَعَ اللَّهِ فَنَاسَبَ هُنَا ذِكْرُ مِنْ دُونِهِ مَعَ الْعِبَادَةِ، وَأَمَّا لَفْظُ مَا أَشْرَكْنا فَالْإِشْرَاكُ يَدُلُّ عَلَى إِثْبَاتِ شَرِيكٍ فَلَا يَتَرَكَّبُ مَعَ هَذَا الْفِعْلِ لَفْظُ مِنْ دُونِهِ لَوْ كَانَ التَّرْكِيبُ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ مَا أَشْرَكْنا مَنْ دُونِهِ لَمْ يَصِحَّ مَعْنَاهُ، وَأَمَّا مِنْ دُونِهِ الثَّانِيَةُ فَالْإِشْرَاكُ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ أَشْيَاءَ وَتَحْلِيلِ أَشْيَاءَ، فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى لَفْظِ مِنْ دُونِهِ وَأَمَّا لَفْظُ الْعِبَادَةِ فَلَا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ شَيْءٍ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ لَفْظُ أَشْرَكَ فَقُيِّدَ بِقَوْلِهِ: مِنْ دُونِهِ وَلَمَّا حُذِفَ مِنْ دُونِهِ هُنَا نَاسِبَ أَنْ يُحْذَفَ نَحْنُ لِيَطَّرِدَ التَّرْكِيبُ فِي التَّخْفِيفِ.

كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا أَيْ مِثْلَ ذَلِكَ التَّكْذِيبِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتِ الْأُمَمُ السَّالِفَةُ، فَمُتَعَلَّقُ التَّكْذِيبِ هُوَ غَيْرُ قَوْلِهِمْ: لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنا الْآيَةَ أَيْ بِنَحْوِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ مِنْ ظَنِّهِمْ أَنَّ تَرْكَ اللَّهِ لَهُمْ دَلِيلٌ عَلَى رِضَاهُ بِحَالِهِمْ وَحَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا غَايَةٌ لِامْتِدَادِ التَّكْذِيبِ إِلَى وَقْتِ الْعَذَابِ، لِأَنَّهُ إِذَا حَلَّ الْعَذَابُ لَمْ يَبْقَ تَكْذِيبٌ وَجَعَلَتِ الْمُعْتَزِلَةُ التَّكْذِيبَ راجعا إلى قوله لَوْ شاءَ اللَّهُ الْجُمْلَةُ الَّتِي هِيَ مَحْكِيَّةٌ بِالْقَوْلِ وَقَالُوا: كَذَّبَهُمُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِمْ وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ بَعْضِ الشَّوَاذِّ كَذَبَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْ جاؤوا بِالتَّكْذِيبِ الْمُطْلَقِ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ رَكَّبَ فِي الْعُقُولِ وَأَنْزَلَ فِي الْكُتُبِ مَا دَلَّ عَلَى غِنَاهُ وَبَرَاءَتِهِ مِنْ مَشِيئَةِ الْقَبَائِحِ وَإِرَادَتِهَا وَالرُّسُلُ أَخْبَرَتْ بِذَلِكَ، فَمَنْ عَلَّقَ وُجُوهَ الْقَبَائِحِ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَإِرَادَتِهِ فَقَدْ كَذَبَ التَّكْذِيبَ كُلَّهُ وَهُوَ تَكْذِيبُ اللَّهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَنَبَذَ أَدِلَّةَ الْعَقْلِ وَالسَّمْعِ وَرَاءَ ظَهْرِهِ انْتَهَى، وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ.

قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ اسْتِفْهَامٌ عَلَى مَعْنَى التَّهَكُّمِ بِهِمْ وَهُوَ إِنْكَارٌ، أَيْ لَيْسَ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ تَحْتَجُّونَ بِهِ فَتُظْهِرُونَهُ لَنَا مَا تَتَّبِعُونَ فِي دَعَاوَاكُمْ إِلَّا الظَّنَّ الْكَاذِبَ الْفَاسِدَ، وَمَا أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ أَوْ تُقَدِّرُونَ وَتَحْزِرُونَ. وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ وَابْنُ وَثَّابٍ: إِنْ يَتَّبِعُونَ بِالْيَاءِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذِهِ قراءة شاذة يضعفها قوله وَإِنْ أَنْتُمْ لِأَنَّهُ يَكُونَ مِنْ بَابِ الِالْتِفَاتِ.

قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ بَيْنَ قُلْ وَالْفَاءِ مَحْذُوفٌ قَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمْتُمْ أَنَّ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ فَلِلَّهِ الحجة البالغة عليكم


(١) سورة النحل: ١٦/ ٣٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>