للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَعَلَى الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذَا الْقَوْلِ تَكُونُ الْآيَاتُ، مَا أَنْزَلَ مِنَ الْكُتُبِ، أَوِ الْقُرْآنِ، أَوْ مَا أَوْضَحَ مِنَ الْحُجَجِ وَالْبَرَاهِينِ، أَوِ الْآيَاتِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ الْمُتَضَمِّنَةِ الْأَمْرَ بِالْإِيمَانِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَعَلَى الْأَقَاوِيلِ فِي ذَلِكَ الْمُضَافِ الْمُقَدَّرِ، وَالْقَوْلِ بَعْدَهَا اخْتَلَفُوا فِي الْمَعْنِيِّ بِقَوْلِهِ: ثَمَنًا قَلِيلًا. فَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُضَافَ هُوَ التَّعْلِيمُ، قَالَ:

الثَّمَنُ الْقَلِيلُ هُوَ الْأُجْرَةُ عَلَى التَّعْلِيمِ، وَكَانَ ذَلِكَ مَمْنُوعًا مِنْهُ فِي شَرِيعَتِهِمْ، أَوِ الرَّاتِبُ الْمُرْصَدُ لَهُمْ عَلَى التَّعْلِيمِ، فَنُهُوا عَنْهُ، وَمَنْ قَالَ: هُوَ التَّغْيِيرُ، قَالَ الثَّمَنُ الْقَلِيلُ هُوَ الرِّيَاسَةُ الَّتِي كَانَتْ فِي قَوْمِهِمْ خَافُوا فَوَاتَهَا لَوْ صَارُوا أَتْبَاعًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمَنْ جَعَلَ الْآيَاتِ كِنَايَةً عَنِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، جَعَلَ الثَّمَنَ الْقَلِيلَ هُوَ مَا يَحْصُلُ لَهُمْ مِنْ شَهَوَاتِ الدُّنْيَا الَّتِي اشْتَغَلُوا بِهَا عَنْ إِيقَاعِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَاجْتِنَابِ مَا نَهَى عَنْهُ، وَوَصَفَ الثَّمَنَ بِالْقَلِيلِ، لِأَنَّ مَا حَصَلَ عِوَضًا عَنْ آيَاتِ اللَّهِ كَائِنًا مَا كَانَ لَا يَكُونُ إِلَّا قَلِيلًا، وَإِنْ بَلَغَ مَا بَلَغَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ «١» ، فَلَيْسَ وَصْفُ الثَّمَنِ بِالْقِلَّةِ مِنَ الْأَوْصَافِ الَّتِي تُخَصِّصُ النَّكِرَاتِ، بَلْ مِنَ الْأَوْصَافِ اللَّازِمَةِ لِلثَّمَنِ الْمُحَصَّلِ بِالْآيَاتِ، إِذْ لَا يَكُونُ إِلَّا قَلِيلًا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ثَمَّ مَعْطُوفٌ تَقْدِيرُهُ: ثَمَنًا قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا، فَحُذِفَ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِقَوْلِهِ: وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا عَلَى مَنْعِ جَوَازِ أَخْذِ الْأُجْرَةِ عَلَى تَعْلِيمِ كِتَابِ اللَّهِ وَالْعِلْمِ. وَقَدْ رُوِيَ فِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ لَا تَصِحُّ، وَقَدْ صَحَّ

أَنَّهُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا نَأْخُذُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ أَجْرًا، فَقَالَ: «إِنَّ خَيْرَ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللَّهِ» .

وَقَدْ تَظَافَرَتْ أَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ عَلَى جَوَازِ أَخْذِ الْأُجْرَةِ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ، وَإِنَّمَا نُقِلَ عَنِ الزُّهْرِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ الْكَرَاهَةُ، لِكَوْنِ ذَلِكَ عِبَادَةً بَدَنِيَّةً، وَلَا دَلِيلَ لِذَلِكَ الذَّاهِبِ فِي الْآيَةِ، وَقَدْ مَرَّ تَفْسِيرُهَا.

وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ: الْكَلَامُ عَلَيْهِ إِعْرَابًا، كَالْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ، وَيَقْرُبُ مَعْنَى التَّقْوَى مِنْ مَعْنَى الرَّهْبَةِ. قَالَ صَاحِبُ الْمُنْتَخَبِ: وَالْفَرْقُ أَنَّ الرَّهْبَةَ عِبَارَةٌ عَنِ الْخَوْفِ، وَأَمَّا الِاتِّقَاءُ فَإِنَّهُ يُحْتَاجُ إِلَيْهِ عِنْدَ الْجَزْمِ بِحُصُولِ مَا يُتَّقَى مِنْهُ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُمْ بِالرَّهْبَةِ لِأَجْلِ أَنَّ جَوَازَ الْعِقَابِ قَائِمٌ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِالتَّقْوَى لِأَنَّ تَعَيُّنَ الْعِقَابِ قَائِمٌ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَمَعْنَى جَوَازِ الْعِقَابِ هُنَاكَ وَتَعْيِينِهِ هُنَا: أَنَّ تَرْكَ ذِكْرِ النِّعْمَةِ وَالْإِيفَاءِ بِالْعَهْدِ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ مِنَ الْمَعَاصِي الَّتِي تُجَوِّزُ الْعِقَابَ، إِذْ يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ الْعَفْوُ عَنْ ذَلِكَ، وَتَرْكُ الْإِيمَانِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى، وَشِرَاءُ الثَّمَنِ الْيَسِيرِ بِآيَاتِ اللَّهِ مِنَ الْمَعَاصِي الَّتِي تُحَتِّمُ العقاب وتعينه، إذ


(١) سورة النساء: ٤/ ٧٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>