وَصْفُ الْوَاصِفِ مِنَ النَّعِيمِ الْخَالِدِ مَعَ الْعَظِيمِ بِمَا هُوَ مِنَ الْوَاسِعِ وَهُوَ الْإِمْكَانُ الْوَاسِعُ غَيْرُ الضَّيِّقِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ انْتَهَى، وَفِيهِ دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ، وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ.
وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ أَيْ أَذْهَبْنَا فِي الْجَنَّةِ مَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ صُدُورُهُمْ مِنَ الْحُقُودِ. وَقِيلَ نَزْعُ الْغِلِّ فِي الْجَنَّةِ أَنْ لَا يَحْسُدَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي نفاضل مَنَازِلِهِمْ، وَقَالَ الْحَسَنُ: غِلُّ الْجَاهِلِيَّةِ، وَقَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَهْوَاءُ وَالْبِدَعُ،
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ فِينَا وَاللَّهِ أَهْلَ بَدْرٍ نَزَلَتْ وَعَنْهُ إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا وَعُثْمَانُ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ مِنَ الَّذِينَ قِيلَ فِيهِمْ وَنَزَعْنا
الْآيَةَ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ النَّزْعَ لِلْغِلِّ كِنَايَةٌ عَنْ خَلْقِهِمْ فِي الْآخِرَةِ سَالِمِي الْقُلُوبِ طَاهِرِيهَا مُتَوَادِّينَ مُتَعَاطِفِينَ، كَمَا قَالَ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ «١» وتَجْرِي حَالٌ قَالَهُ الْحَوْفِيُّ قَالَ: وَالْعَامِلُ فِيهِ نَزَعْنا، وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ:
حَالٌ وَالْعَامِلُ فِيهَا مَعْنَى الْإِضَافَةِ وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ تَجْرِي لَيْسَ مِنْ صِفَاتِ الْفَاعِلِ الَّذِي هُوَ ضَمِيرُ نَزَعْنا وَلَا صِفَاتِ الْمَفْعُولِ الَّذِي هُوَ مَا فِي صُدُورِهِمْ وَلِأَنَّ مَعْنَى الْإِضَافَةِ لَا يَعْمَلُ إِلَّا إِذَا كانت إضافة يمكن للمضاعف أَنْ يَعْمَلَ إِذَا جُرِّدَ مِنَ الْإِضَافَةِ رَفْعًا أَوْ نَصْبًا فِيمَا بَعْدَهُ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ خَبَرٌ مُسْتَأْنَفٌ عَنْ صِفَةِ حَالِهِمْ.
وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا أَيْ وَفَّقَنَا لِتَحْصِيلِ هَذَا النَّعِيمِ الَّذِي صِرْنَا إِلَيْهِ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ إِذْ هُوَ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ يَجِبُ عَلَيْهِمْ بِهَا حَمْدُهُ وَالثَّنَاءُ عَلَيْهِ تَعَالَى، وَقِيلَ: الْهِدَايَةُ هُنَا هُوَ الْإِرْشَادُ إِلَى طَرِيقِ الْجَنَّةِ وَمَنَازِلِهِمْ فِيهَا
وَفِي الْحَدِيثِ «إِنَّ أَحَدَهُمْ أَهْدَى إِلَى مَنْزِلِهِ فِي الْجَنَّةِ مِنْ مَنْزِلِهِ فِي الدُّنْيَا»
، وَقِيلَ: الْإِشَارَةُ بِهَذَا إِلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ الَّذِي هَذَا جَزَاؤُهُ، وَقِيلَ إِلَى الْإِيمَانِ الَّذِي تَأَهَّلُوا بِهِ لِهَذَا النَّعِيمِ الْمُقِيمِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
أَيْ وَفَّقَنَا لِمُوجِبِ هَذَا الْفَوْزِ الْعَظِيمِ وَهُوَ الإيمان والعمل الصالح انتهى، وَفِي لَفْظَةِ وَاجِبٌ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ، وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ مَعْنَى هَدانا اللَّهُ أَعْطَانَا الْقُدْرَةَ وَضَمَّ إِلَيْهَا الدَّاعِيَةَ الْجَازِمَةَ، وَصَيَّرَ مَجْمُوعَهُمَا لِحُصُولِ تِلْكَ الْفَضِيلَةِ وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ التَّحْمِيدُ إِنَّمَا وَقَعَ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ الْعَقْلَ وَوَضَعَ الدَّلَائِلَ وَأَزَالَ الْمَوَانِعَ انْتَهَى،
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ «إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ نَادَى مُنَادٍ إِنَّ لَكُمْ أَنْ تَحْيَوْا فَلَا تَمُوتُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَصِحُّوا فَلَا تَسْقَمُوا أَبَدًا وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَشِبُّوا فَلَا تَهْرَمُوا أَبَدًا وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَنْعَمُوا فَلَا تَيْأَسُوا أَبَدًا»
فَلِذَلِكَ قالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا.
(١) سورة الحجر: ١٥/ ٤٧.