للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

نَفْسٍ، لِأَنَّهَا نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَتَعُمُّ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ «١» ، وَأَتَى بِهِ مُذَكَّرًا لِأَنَّهُ أُرِيدَ بِالنُّفُوسِ الْأَشْخَاصُ كَقَوْلِهِمْ: ثَلَاثَةُ أَنْفُسٍ، وَجُعِلَ حَرْفُ النَّفْيِ مُنْسَحِبًا عَلَى جُمْلَةٍ اسْمِيَّةٍ لِيَكُونَ الضَّمِيرُ مَذْكُورًا مَرَّتَيْنِ، فَيَتَأَكَّدُ ذِكْرُ الْمَنْفِيِّ عَنْهُ النَّصْرُ بِذِكْرِهِ مَرَّتَيْنِ، وَحَسَّنَ الْحَمْلَ عَلَى الْمَعْنَى كَوْنُ ذَلِكَ فِي آخِرِ فَاصِلَةٍ، فَيَحْصُلُ بِذَلِكَ التَّنَاسُبُ فِي الْفَوَاصِلِ، بِخِلَافِ أَنْ لَوْ جَاءَ وَلَا تُنْصَرُ، إِذْ كَانَ يَفُوتُ التَّنَاسُبُ.

وَيَحْتَمِلُ رَفْعُ هَذَا الضَّمِيرِ وَجْهَيْنِ مِنَ الْإِعْرَابِ. أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْمُتَبَادِرُ إِلَى أَذْهَانِ الْمُعْرِبِينَ أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ، وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الْخَبَرِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَغْمَضُ الْوَجْهَيْنِ وَأَغْرَبُهُمَا أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، يُفَسِّرُ فِعْلَهُ الْفِعْلُ الَّذِي بَعْدَهُ، وَتَكُونُ الْمَسْأَلَةُ مِنْ بَابِ الِاشْتِغَالِ، وَذَلِكَ أَنَّ لَا هِيَ مِنَ الْأَدَوَاتِ الَّتِي هِيَ أَوْلَى بِالْفِعْلِ، كَهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ. فَكَمَا يَجُوزُ فِي: أَزْيَدٌ قَائِمٌ، وَأَزْيَدٌ يَضْرِبُ، الرَّفْعُ عَلَى الِاشْتِغَالِ، فَكَذَلِكَ هَذَا، وَيُقَوِّي هَذَا الْوَجْهَ أَنَّهُ تَقَدَّمَ جُمْلَةً فِعْلِيَّةً.

وَالْحُكْمُ فِي بَابِ الِاشْتِغَالِ أَنَّهُ إِذَا تَقَدَّمَتْ جُمْلَةٌ فِعْلِيَّةٌ وَعُطِف عَلَيْهَا بِشَرْطِ الْعَطْفِ الْمَذْكُورِ فِي ذَلِكَ الْبَابِ، فَالْأَفْصَحُ الْحَمْلُ عَلَى الْفِعْلِ، وَيَجُوزُ الِابْتِدَاءُ كَمَا ذَكَرْنَا أَوَّلًا، وَيُقَوِّي عَوْدَ الضَّمِيرِ إِلَى نَفْسٍ الثَّانِيَةِ بِنَاءُ الْفِعْلِ لِلْمَفْعُولِ، إِذْ لَوْ كَانَ عَائِدًا عَلَى نَفْسٍ الْأُولَى لَكَانَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، كَقَوْلِهِ: لَا تَجْزِي. وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ جَعَلَ الضَّمِيرَ فِي وَلَا هُمْ عَائِدًا عَلَى النَّفْسَيْنِ مَعًا، قَالَ: لِأَنَّ التَّثْنِيَةَ جَمْعٌ قَالُوا، وَفِي مَعْنَى النَّصْرِ لِلْمُفَسِّرِينَ هُنَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ مَعْنَاهُ لَا يُمْنَعُونَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ. الثَّانِي: لَا يَجِدُونَ نَاصِرًا يَنْصُرُهُمْ وَلَا شَافِعًا يَشْفَعُ لَهُمْ. الثَّالِثُ: لَا يُعَاوَنُونَ عَلَى خَلَاصِهِمْ وَفِكَاكِهِمْ مِنْ مُوبِقَاتِ أَعْمَالِهِمْ.

وَثَلَاثَةُ الْأَقْوَالِ هَذِهِ مُتَقَارِبَةُ الْمَعْنَى، وَجَاءَ النَّفْيُ لِهَذِهِ الْجُمَلِ هنا بلا الْمُسْتَعْمَلَةِ لِنَفْيِ الْمُسْتَقْبَلِ فِي الْأَكْثَرِ، وَكَذَلِكَ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ الْأَرْبَعَةُ هِيَ مُسْتَقْبَلَةٌ، لِأَنَّ هَذَا الْيَوْمَ لَمْ يَقَعْ بَعْدُ.

وَتَرْتِيبُ هَذِهِ الْجُمَلِ فِي غَايَةِ الْفَصَاحَةِ، وَهِيَ عَلَى حَسَبِ الْوَاقِعِ فِي الدُّنْيَا، لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ بِحَقٍّ، إِمَّا أَنْ يُؤَدَّى عَنْهُ الْحَقُّ فَيَخْلُصُ، أَوْ لَا يُقْضَى عَنْهُ فَيُشْفَعُ فِيهِ، أَوْ لَا يُشْفَعُ فِيهِ فَيُفْدَى، أَوْ لَا يُفْدَى فَيُتَعَاوَنُ بِالْإِخْوَانِ عَلَى تَخْلِيصِهِ.

فَهَذِهِ مَرَاتِبٌ يَتْلُو بَعْضُهَا بَعْضًا. فَلِهَذَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، جَاءَتْ مُتَرَتِّبَةً فِي الذِّكْرِ هَكَذَا.

وَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ مُخْتَلِفًا عِنْدَ النَّاسِ فِي الشَّفَاعَةِ وَالْفِدْيَةِ، فَمَنْ يَغْلُبُ عَلَيْهِ حُبُّ الرِّيَاسَةِ قَدَّمَ الشَّفَاعَةَ عَلَى الْفِدْيَةِ، وَمَنْ يَغْلُبُ عَلَيْهِ حُبُّ الْمَالِ قَدَّمَ الْفِدْيَةَ عَلَى الشَّفَاعَةِ، جاءت هذه


(١) سورة الحاقة: ٦٩/ ٤٧. [.....]

<<  <  ج: ص:  >  >>