للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أُؤَخِّرُهُمْ مِلَاوَةً مِنَ الدَّهْرِ أَيْ مُدَّةً فِيهَا طُولٌ وَالْمُلَاوَةُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَضَمِّهَا وَكَسْرِهَا وَمِنْهُ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا «١» أَيْ طَوِيلًا وَسَمَّى فِعْلَهُ ذَلِكَ بِهِمْ كَيْدًا لِأَنَّهُ شَبِيهٌ بِالْكَيْدِ مِنْ حَيْثُ أَنَّهُ فِي الظَّاهِرِ إِحْسَانٌ وَفِي الْحَقِيقَةِ خِذْلَانٌ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ إِنَّ مَكْرِي شَدِيدٌ، وَقِيلَ: إِنَّ عَذَابِي وَسَمَّاهُ كَيْدًا لِنُزُولِهِ بِالْعِبَادِ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ وَالْمَتِينُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ الْقَوِيُّ يُقَالُ:

مَتُنَ مَتَانَةً وَهَذَا إِخْبَارٌ عَنِ الْمُكَذِّبِينَ عُمُومًا، وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْمُسْتَهْزِئِينَ مِنْ قُرَيْشٍ قَتَلَهُمُ اللَّهُ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ بَعْدَ أَنْ أَمْهَلَهُمْ مُدَّةً، وَقَرَأَ عَبْدُ الْحَمِيدِ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ أَنَّ كَيَدِي بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ عَلَى مَعْنَى لِأَجْلِ إِنَّ كَيْدِي، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِكَسْرِهَا عَلَى الِاسْتِئْنَافِ.

أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ

قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: سَبَبُ نُزُولِهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَعِدَ لَيْلًا عَلَى الصَّفَا فَجَعَلَ يَدْعُو قَبَائِلَ قُرَيْشٍ يَا بَنِي فُلَانٍ يَا بَنِي فُلَانٍ يُحَذِّرُهُمْ وَيَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَقَالَ بَعْضُ الْكُفَّارِ حِينَ أَصْبَحُوا: هَذَا مَجْنُونٌ بَاتَ يُصَوِّتُ حَتَّى الصَّبَاحِ، وَكَانُوا يَقُولُونَ: شَاعِرٌ مَجْنُونٌ فَنَفَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُ مَا قَالُوهُ، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ مُحَذِّرٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ

وَالْآيَةُ بَاعِثَةٌ لَهُمْ عَلَى التَّفَكُّرِ فِي أَمْرِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَانْتِفَاءِ الْجِنَّةِ عَنْهُ وَهَذَا الِاسْتِفْهَامُ قِيلَ: مَعْنَاهُ التَّوْبِيخُ، وَقِيلَ: التَّحْرِيضُ عَلَى التَّأَمُّلِ وَالْجِنَّةُ كَمَا قَالَ تَعَالَى مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ «٢» وَالْمَعْنَى مِنْ مَسِّ جِنَّةٍ أَوْ تَخْبِيطِ جِنَّةٍ، وَقِيلَ: هِيَ هَيْئَةٌ كَالْجِلْسَةِ وَالرِّكْبَةِ أُرِيدَ بِهَا الْمَصْدَرُ أَيْ مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جُنُونٍ وَالظَّاهِرُ أَنَّ يَتَفَكَّرُوا مُعَلَّقٌ عَنِ الْجُمْلَةِ الْمَنْفِيَّةِ وَهِيَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِيَتفَكَّرُوا بَعْدَ إِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ لِأَنَّ التَّفَكُّرَ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ فيجوز تعليقه والمعنى أو لم يَتَأَمَّلُوا وَيَتَدَبَّرُوا فِي انْتِفَاءِ هَذَا الْوَصْفِ عَنِ الرَّسُولِ فَإِنَّهُ مُنْتَفٍ لَا مَحَالَةَ وَلَا يُمْكِنُ لِمَنْ أَنْعَمَ الْفِكْرَ فِي نِسْبَةِ ذَلِكَ إِلَيْهِ، وَقِيلَ ثَمَّ مُضْمَرٌ مَحْذُوفٌ أَيْ فَيَعْلَمُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ قالوا الْحَوْفِيُّ، وَزَعَمَ أَنَّ تَفَكَّرُوا لَا تُعَلَّقُ لِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ عَلَى الْجُمَلِ قَالَ: وَدَلَّ التَّفَكُّرُ عَلَى الْعِلْمِ، وَقَالَ أَصْحَابُنَا: إِذَا كَانَ فِعْلُ الْقَلْبِ يَتَعَدَّى بِحَرْفِ جَرٍّ قُدِّرَتِ الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ بَعْدَ إِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ ومنهم مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يُضَمَّنُ الْفِعْلُ الَّذِي تَعَدَّى بِنَفْسِهِ إِلَى وَاحِدٍ أَوْ بِحَرْفِ جَرٍّ إِلَى وَاحِدٍ مَعْنَى مَا يَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولَيْنِ فَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ لَا حَاجَةَ إِلَى هَذَا الْمُضْمَرِ الَّذِي قَدَّرَهُ الْحَوْفِيُّ، وَقِيلَ تَمَّ الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ يَتَفَكَّرُوا ثُمَّ اسْتَأْنَفَ إِخْبَارًا بِانْتِفَاءِ الْجَنَّةِ وَإِثْبَاتِ النِّذَارَةِ، وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ:

فِي مَا وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا بَاقِيَةٌ وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ أو لم يَتَفَكَّرُوا فِي قَوْلِهِمْ بِهِ جِنَّةٌ، وَالثَّانِي أَنَّهَا اسْتِفْهَامٌ أي أو لم يَتَفَكَّرُوا أَيَّ شَيْءٍ بِصَاحِبِهِمْ مِنَ الْجُنُونِ مَعَ انْتِظَامِ أقواله وأفعاله،


(١) سورة مريم: ١٩/ ٤٦.
(٢) سورة الناس: ١١٤/ ٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>