إِذَا رَأَى فِيهَا ضَعْفًا وَأَغْنَى غَيْرَهُ فِي قِتَالِ مَنْ قَاتَلَهُ مِنَ الْكُفَّارِ وَبِهَذَا فَسَّرَ الزَّمَخْشَرِيُّ قَالَ إِلى فِئَةٍ جَمَاعَةٍ أُخْرَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ سِوَى الْفِئَةِ الَّتِي هُوَ فِيهَا، وَقِيلَ الْفِئَةُ هُنَا الْمَدِينَةُ وَالْإِمَامُ وَجَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ أَيْنَمَا كَانُوا، وَرُوِيَ هَذَا عَنْ عُمَرَ: انْهَزَمَ رَجُلٌ مِنَ الْقَادِسِيَّةِ فَأَتَى الْمَدِينَةَ إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَلَكْتُ فَرَرْتُ مِنَ الزَّحْفِ، فَقَالَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَا فِئَتُكَ.
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: خَرَجَتْ سَرِيَّةٌ وَأَنَا فِيهِمْ فَفَرُّوا فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى الْمَدِينَةِ اسْتَحْيَوْا فَدَخَلُوا الْبُيُوتَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَحْنُ الْفَرَّارُونَ. فَقَالَ: بَلْ أَنْتُمُ الْعَكَّارُونَ وَأَنَا فِئَتُكُمْ.
قَالَ ثَعْلَبٌ الْعَكَّارُونَ الْعَطَّافُونَ، وَقَالَ غَيْرُهُ: يُقَالُ لِلرَّجُلِ الَّذِي يُوَلِّي عَنِ الْحَرْبِ لَمْ يَكُنْ رَاجِعًا عَكَّرَ وَاعْتَكَرَ.
وَعَنِ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: الْفِرَارُ مِنَ الزَّحْفِ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى الله عليه وسلم اتَّقُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ وَعَدَّ فِيهَا الْفِرَارَ مِنَ الزَّحْفِ
وَفِي التَّحْرِيرِ التَّوَلِّي الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ الْوَعِيدُ هُوَ الْفِرَارُ مَعَ الْمُصَابَرَةِ عَلَى الثَّبَاتِ فَأَمَّا إِذَا جَاءَهُ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ مَعَهُ الثَّبَاتَ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِالْفِرَارِ انْتَهَى. وَمَا أَحْسَنَ مَا اسْتَعْذَرَ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ إِذْ فَرَّ فَقِيلَ فِيهِ:
تَرَكَ الْأَحِبَّةَ أَنْ يُقَاتِلَ دُونَهُمْ ... وَنَجَا بِرَأْسِ طِمِرَّةٍ وَلِجَامِ
وَقَالَ الْحَارِثُ مِنْ أَبْيَاتٍ:
وَعَلِمْتُ أَنِّيَ إِنْ أُقَاتِلْ وَاحِدًا ... أُقْتَلْ وَلَمْ يَضْرُرْ عَدُوِّيَ مَشْهَدِي
وَاسْتَدَلَّ الْقَاضِي بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ عَلَى وَعِيدِ الْفُسَّاقِ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ لِأَنَّهَا دَلَّتْ عَلَى أَنَّ مَنِ انْهَزَمَ إِلَّا فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ اسْتَوْجَبَ غَضَبَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ. قَالَ: وَلَيْسَ لِلْمُرْجِئَةِ أَنْ يَحْمِلُوا ذَلِكَ عَلَى الْكُفَّارِ كَمَا فَعَلُوا فِي آيَاتِ الْوَعِيدِ لِأَنَّ ذَلِكَ مُفْتَتَحٌ بِأَهْلِ الصَّلَاةِ وَهُوَ قَوْلُهُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا انْتَهَى، وَلَا حُجَّةَ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ عَامٌّ مَخْصُوصٌ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَجُوزُ التَّحَيُّزُ سَوَاءٌ عَظُمَ الْعَسْكَرُ أَمْ لَا، وَقِيلَ لَا يَجُوزُ إِذَا عَظُمَ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْفِرَارَ مِنَ الزَّحْفِ بِغَيْرِ شُرُوطِهِ كَبِيرَةٌ لِلتَّوَعُّدِ وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ لَا تَقْبَلُوا شَهَادَةَ مَنْ فَرَّ مِنَ الزَّحْفِ وَإِنْ فَرَّ أَمَامَهُمْ وَمَنْ فَرَّ فَلْيَسْتَغْفِرِ اللَّهَ
فَفِي التِّرْمِذِيِّ: مَنْ قَالَ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ غُفِرَ لَهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ فَرَّ مِنَ الزَّحْفِ.
فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ لَمَّا رَجَعَ الصَّحَابَةُ مِنْ بَدْرٍ ذَكَرُوا مَفَاخِرَهُمْ فَيَقُولُ الْقَائِلُ