يُغَايِرَ بَيْنَ الرَّمْيَيْنِ فَالْمَنْفِيُّ الْإِصَابَةُ وَالظَّفَرُ وَالْمُثْبَتُ الْإِرْسَالُ، وَقِيلَ الْمَنْفِيُّ إِزْهَاقُ الرُّوحِ وَالْمُثْبَتُ أَثَرُ الرَّمْيِ وَهُوَ الْجَرْحُ وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ مُتَقَارِبَانِ، وَقِيلَ مَا اسْتَبْدَدْتَ بِالرَّمْيِ إِذْ أَرْسَلْتَ التُّرَابَ لِأَنَّ الِاسْتِبْدَادَ بِهِ هُوَ فِعْلُ اللَّهِ حَقِيقَةً وَإِرْسَالُ التُّرَابِ مَنْسُوبٌ إِلَيْهِ كَسْبًا كَانَ الْمَعْنَى، وَما رَمَيْتَ الرَّمْيَ الْكَافِيَ إِذْ رَمَيْتَ وَنَحْوُهُ قَوْلُ الْعَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ:
وَقَدْ كُنْتُ فِي الْحَرْبِ ذَا تُدْرَأُ ... فَلَمْ أُعْطَ شَيْئًا وَلَمْ أَمْنَعِ
أَيْ لَمْ أُعْطَ شَيْئًا مَرْضِيًّا. وَقِيلَ مُتَعَلِّقُ الْمَنْفِيِّ الرُّعْبُ ومتعلق المنبت الْحَصَيَاتُ أَيْ وَمَا رَمَيْتَ الرُّعْبَ فِي قُلُوبِهِمْ إِذْ رَمَيْتَ الْحَصَيَاتِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ يَعْنِي أَنَّ الرَّمْيَةَ الَّتِي رَمَيْتَهَا لَمْ تَرْمِهَا أَنْتَ عَلَى الْحَقِيقَةِ لِأَنَّكَ لَوْ رَمَيْتَهَا لَمَا بَلَغَ أَثَرُهَا إِلَّا مَا يَبْلُغُهُ رَمْيُ الْبَشَرِ وَلَكِنَّهَا كَانَتْ رَمْيَةَ اللَّهِ حَيْثُ أَثَّرَتْ ذَلِكَ الْأَثَرَ الْعَظِيمَ فَأَثْبَتَ الرَّمْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ صُورَةَ الرَّمْيِ وُجِدَتْ مِنْهُ وَنَفَاهَا عَنْهُ لِأَنَّ أَثَرَهَا الَّذِي لَا يُطِيقُهُ الْبَشَرُ فِعْلُ اللَّهِ فَكَانَ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ فَاعِلُ الرَّمْيِ حَقِيقَةً وَكَأَنَّهَا لَمْ تُوجَدْ مِنَ الرَّسُولِ أَصْلًا انْتَهَى، وَهُوَ رَاجِعٌ لِمَعْنَى الْقَوْلَيْنِ أَوَّلًا وَتَقَدَّمَ خِلَافُ الْفَرَّاءِ فِي لكِنَّ وَمَا بَعْدَهَا عِنْدَ قَوْلِهِ: وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا ولِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً. قَالَ السُّدِّيُّ يَنْصُرُهُمْ وَيُنْعِمُ عَلَيْهِمْ يُقَالُ أَبْلَاهُ إِذَا أَنْعَمَ عَلَيْهِ وَبَلَاهُ إِذَا امْتَحَنَهُ وَالْبَلَاءُ يُسْتَعْمَلُ لِلْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَوَصْفُهُ بِحَسَنٍ يَدُلُّ عَلَى النَّصْرِ وَالْعِزَّةِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلِيُعْطِيَهُمْ عَطَاءً جَمِيلًا كَمَا قَالَ، فَأَبْلَاهُمَا خَيْرَ الْبَلَاءِ الَّذِي يَبْلُو. انْتَهَى، وَالْبَلَاءُ الْحَسَنُ قِيلَ بِالنَّصْرِ وَالْغَنِيمَةِ، وَقِيلَ بِالشَّهَادَةِ لِمَنِ اسْتُشْهِدَ يَوْمَ بَدْرٍ وَهُمْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلًا مِنْهُمْ عُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَمِهْجَعٌ مولى عمر ومعاذ وعمر وابنا عَفْرَاءَ أَنَّهُ قَالَ: لَوْلَا أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ اتَّفَقُوا عَلَى حَمْلِ الْبَلَاءِ هُنَا عَلَى النِّعْمَةِ لَكَانَ يَحْتَمِلُ الْمِحْنَةَ لِلتَّكْلِيفِ بِمَا بَعْدَهُ مِنَ الْجِهَادِ حَتَّى يُقَالَ إِنَّ الَّذِي فَعَلَهُ تَعَالَى يَوْمَ بَدْرٍ كَانَ السَّبَبَ فِي حُصُولِ تَكْلِيفٍ شَاقٍّ عَلَيْهِمْ فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الْغَزَوَاتِ انْتَهَى. وَسِيَاقُ الْكَلَامِ يَنْفِي أَنْ يُرَادَ بِالْبَلَاءِ الْمِحْنَةُ لِأَنَّهُ قَالَ: وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً، فَعَلَ ذَلِكَ أَيْ قَتْلَ الْكُفَّارِ وَرَمْيِهِمْ وَنِسْبَةُ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ هَزِيمَتِهِمْ وَالنَّصْرِ عَلَيْهِمْ وَجَعْلِهِمْ نُهْبَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَهَذَا لَيْسَ مِحْنَةً بَلْ مِنْحَةٌ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ لَمَّا كَانُوا قَدْ أَقْبَلُوا عَلَى الْمَفَاخِرِ بِقَتْلِ مَنْ قَتَلُوا وَأَسْرِ مَنْ أَسَرُوا وكان رُبَّمَا قَدْ لَا يَخْلُصُ الْعَمَلُ مِنْ بَعْضِ الْمُقَاتِلِينَ إِمَّا لِقِتَالِ حَمِيَّةٍ وَإِمَّا لِدَفْعٍ عَنْ نَفْسٍ أَوْ ما خُتِمَتُ بِهَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ فَقِيلَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ لِكَلَامِكُمْ وَمَا تَفْخَرُونَ بِهِ عَلِيمٌ بِمَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ الضَّمَائِرُ وَمَنْ يُقَاتِلُ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا.
ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ قَالَ: ذلِكُمْ إِشَارَةٌ إِلَى الْبَلَاءِ الْحَسَنِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute