جُنُوحِهِمْ إِلَى السَّلْمِ فَإِنَّ الله كافي مَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ وهُوَ السَّمِيعُ لِأَقْوَالِهِمُ الْعَلِيمُ بِنِيَّاتِهِمْ.
وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. أَيْ وَإِنْ يُرِدِ الْجَانِحُونَ لِلسَّلْمِ بِأَنْ يُظْهِرُوا السَّلْمَ وَيُبْطِنُوا الْخِيَانَةَ وَالْغَدْرَ مُخَادَعَةً فَاجْنَحْ لَهَا فَمَا عَلَيْكَ مِنْ نِيَّاتِهِمُ الْفَاسِدَةِ فَإِنَّ حَسْبَكَ وَكَافِيكَ هُوَ اللَّهُ وَمَنْ كَانَ اللَّهُ حَسْبُهُ لَا يُبَالِي بِمَنْ يَنْوِي سُوءًا ثُمَّ ذَكَّرَهُ بِمَا فَعَلَ مَعَهُ أَوَّلًا مِنْ تَأْيِيدِهِ بِالنَّصْرِ وَبِائْتِلَافِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى إِعَانَتِهِ وَنَصْرِهِ عَلَى أَعْدَائِهِ فَكَمَا لَطَفَ بِكَ أَوَّلًا يَلْطُفُ بِكَ آخِرًا وَالْمُؤْمِنُونَ هُنَا الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ وَكَانَ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ مِنَ الْعَدَاوَةِ لِلْحُرُوبِ الَّتِي جَرَتْ بَيْنَهُمْ مَا كَانَ لَوْلَا الْإِسْلَامُ لَيَنْقَضِي أَبَدًا وَلَكِنَّهُ تَعَالَى مَنَّ عَلَيْهِمْ بِالْإِسْلَامِ فَأَبْدَلَهُمْ بِالْعَدَاوَةِ مَحَبَّةً وَبِالتَّبَاعُدِ قُرْبًا.
وَمَعْنَى لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً عَلَى تَأْلِيفِ قُلُوبِهِمْ وَاجْتِمَاعِهَا عَلَى مَحَبَّةِ بَعْضِهَا بَعْضًا وَكَوْنُهَا فِي الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، تَظَاهَرَ بِهِ أَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ:
نَزَلَتْ فِي الْمُتَحَابِّينَ فِي اللَّهِ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَلَوْ ذَهَبَ ذَاهِبٌ إِلَى عُمُومِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَجَعَلَ التَّأْلِيفَ مَا كَانَ بَيْنَ جَمْعِهِمْ فَكُلٌّ يَأْلَفُ فِي اللَّهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: التَّأْلِيفُ بَيْنَ قُلُوبِ مَنْ بُعِثَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا رَأَوْا مِنَ الْآيَاتِ الْبَاهِرَةِ لِأَنَّ الْعَرَبَ لِمَا فِيهِمْ مِنَ الْحَمِيَّةِ وَالْعَصَبِيَّةِ وَالِانْطِوَاءِ عَلَى الضَّغِينَةِ فِي أَدْنَى شَيْءٍ وَإِلْقَائِهِ بَيْنَ أَعْيُنِهِمْ إِلَى أَنْ يَنْتَقِمُوا لَا يَكَادُ يَأْتَلِفُ مِنْهُمْ قَلْبَانِ ثُمَّ ائْتَلَفَتْ قُلُوبُهُمْ عَلَى اتِّبَاعِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاتَّحَدُوا وَذَلِكَ لِمَا نَظَّمَ اللَّهُ مِنْ أُلْفَتِهِمْ وَجَمَعَ مِنْ كَلِمَتِهِمْ وَأَحْدَثَ بَيْنَهُمْ من التحابّ والتوادّ وأما عَنْهُمْ مِنَ التَّبَاغُضِ وَكَلَّفَهُمْ مِنَ الْحُبِّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا مَنْ يَمْلِكُ الْقُلُوبَ فَهُوَ يُقَلِّبُهَا كَمَا يَشَاءُ وَيَصْنَعُ فِيهَا مَا أَرَادَ انْتَهَى، وَكَلَامُهُ آخِرًا قَرِيبٌ مِنْ كَلَامِ أَهْلِ السُّنَّةِ لِأَنَّهُمْ قَالُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعَقَائِدَ وَالْإِرَادَاتِ وَالْكَرَاهَاتِ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ لِأَنَّ مَا حَصَلَ مِنَ الْأُلْفِ هُوَ بِسَبَبِ الْإِيمَانِ وَمُتَابَعَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَوْ كَانَ الْإِيمَانُ فِعْلًا لِلْعَبْدِ لَكَانَتِ الْمَحَبَّةُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَيْهِ فِعْلًا لِلْعَبْدِ وَذَلِكَ خِلَافُ صَرِيحِ الْآيَةِ، وَقَالَ الْقَاضِي: لَوْلَا أَلْطَافُ اللَّهِ تَعَالَى سَاعَةً سَاعَةً مَا حَصَلَتْ هَذِهِ الْأَحْوَالُ فَأُضِيفَتْ إِلَى اللَّهِ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ وَنَظِيرُهُ أَنَّهُ يُضَافُ عِلْمُ الْوَلَدِ وَأَدَبُهُ إِلَى أَبِيهِ لِأَجْلِ أَنَّهُ لَمْ يَحَصِّلْ ذَلِكَ إِلَّا بِمَعُونَةِ الْأَبِ وَتَرْبِيَتِهِ فَكَذَلِكَ هُنَا انْتَهَى، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute