يُوَسِّعَ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلِهِ، فَيُغْنِينَا عَنِ الصَّدَقَةِ وَغَيْرِهَا مِمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ. وَقِيلَ: مَا آتَاهُمُ اللَّهُ بِالتَّقْدِيرِ، وَرَسُولُهُ بِالْقَسْمِ انْتَهَى. وَأَتَى أَوَّلًا بِمَقَامِ الرِّضَا وَهُوَ فِعْلٌ قَلْبِيٌّ يَصْدُرُ عَمَّنْ عَلِمَ أَنَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الْعَتَبِ وَالْخَطَأِ عَلِيمٌ بِالْعَوَاقِبِ، فَكُلُّ قَضَائِهِ صَوَابٌ وَحَقٌّ، لَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ.
ثُمَّ ثَنَّى بِإِظْهَارِ آثَارِ الْوَصْفِ الْقَلْبِيِّ وَهُوَ الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ، فَحَسْبُنَا مَا رَضِيَ بِهِ. ثُمَّ أَتَى ثَالِثًا بِأَنَّهُ تَعَالَى مَا دَامُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَادٌّ لَهُمْ بِنِعَمِهِ وَإِحْسَانِهِ، فَهُوَ إِخْبَارٌ حَسَنٌ إِذْ مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إِلَّا وَنِعَمُ اللَّهِ مُتَرَادِفَةٌ عَلَيْهِ حَالًا وَمَآلًا، إِمَّا فِي الدُّنْيَا، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ. ثُمَّ أَتَى رَابِعًا بِالْجُمْلَةِ الْمُقْتَضِيَةِ الِالْتِجَاءَ إِلَى اللَّهِ لَا إِلَى غَيْرِهِ، وَالرَّغْبَةَ إِلَيْهِ، فَلَا يُطْلَبُ بِالْإِيمَانِ أَخْذُ الْأَمْوَالِ وَالرِّئَاسَةِ فِي الدُّنْيَا وَلَمَّا كَانَتِ الْجُمْلَتَانِ مُتَغَايِرَتَيْنِ وَهُمَا مَا تَضَمَّنَ الرِّضَا بِالْقَلْبِ، وَمَا تَضَمَّنَ الْإِقْرَارَ بِاللِّسَانِ، تَعَاطَفَتَا. وَلَمَّا كَانَتِ الْجُمْلَتَانِ الْأَخِيرَتَانِ مِنْ آثَارِ قَوْلِهِمْ: حَسْبُنَا اللَّهُ لَمْ تَتَعَاطَفَا، إِذْ هُمَا كَالشَّرْحِ لِقَوْلِهِمْ: حَسْبُنَا اللَّهُ، فَلَا تَغَايُرَ بَيْنَهُمَا.
إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ: لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَنْ يَعِيبُ الرَّسُولَ فِي قَسْمِ الصَّدَقَاتِ بِأَنَّهُ يُعْطِي مَنْ يَشَاءُ وَيَحْرِمُ مَنْ يَشَاءُ، أَوْ يَخُصُّ أَقَارِبَهُ، أَوْ يَأْخُذُ لِنَفْسِهِ مَا بَقِيَ. وَكَانُوا يَسْأَلُونَ فَوْقَ مَا يَسْتَحِقُّونَ، بَيَّنَ تَعَالَى مصرف الصدقات، وَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا قَسَمَ عَلَى مَا فَرَضَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَفْظَةُ إِنَّمَا إِنْ كَانَتْ وُضِعَتْ للحصر فالحصر مستفاد من لَفْظِهَا، وَإِنْ كَانَتْ لَمْ تُوضَعْ لِلْحَصْرِ فَالْحَصْرُ مُسْتَفَادٌ مِنَ الْأَوْصَافِ، إِذْ مَنَاطُ الْحُكْمِ بِالْوَصْفِ يَقْتَضِي التَّعْلِيلَ بِهِ، وَالتَّعْلِيلُ بِالشَّيْءِ يَقْتَضِي الِاقْتِصَارَ عَلَيْهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَصْرِفَ الصَّدَقَاتِ هَؤُلَاءِ الْأَصْنَافُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْعَطْفَ مُشْعِرٌ بالتغاير، فتكون الفقراء عين الْمَسَاكِينِ. وَالظَّاهِرُ بَقَاءُ هَذَا الْحُكْمِ لِلْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ دَائِمًا، إِذْ لَمْ يَرِدْ نَصٌّ فِي نَسْخِ شَيْءٍ مِنْهَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي كُلِّ صِنْفٍ مِنْهَا مَا دَلَّ عَلَيْهِ لَفْظُهُ إِنْ كَانَ مَوْجُودًا، وَالْخِلَافُ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الظَّوَاهِرِ. فَأَمَّا أَنَّ مَصْرِفَ الصَّدَقَاتِ هَؤُلَاءِ الْأَصْنَافُ، فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى بَعْضِ هَؤُلَاءِ الْأَصْنَافِ، وَيَجُوزَ أَنْ يُصْرَفَ إِلَى جَمِيعِهَا. فَمِنَ الصَّحَابَةِ: عُمَرُ، وَعَلِيٌّ، وَمُعَاذٌ، وَحُذَيْفَةُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَمِنَ التَّابِعِينَ النَّخَعِيُّ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، قَالُوا: فِي أَيِّ صِنْفٍ مِنْهَا وَضَعْتَهَا أَجْزَأَتْكَ. قَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: لَوْ نَظَرْتَ إِلَى أَهْلِ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فُقَرَاءَ مُتَعَفِّفِينَ فَخَيَّرْتَهُمْ بِهَا كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَعَلَيْهِ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ غَيْرُهُ: وَأَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، وَزُفَرُ، وَمَالِكٌ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ: لَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى أَحَدِ هَذِهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute