للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

السِّينُ مُدْخِلَةٌ فِي الْوَعْدِ مُهْلَةً، لِتَكُونَ النُّفُوسُ تَتَنَعَّمُ بِرَجَائِهِ وَفَضْلِهِ تَعَالَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:

السِّينُ مُفِيدَةٌ وُجُوبَ الرَّحْمَةِ لَا مَحَالَةَ، فَهِيَ تؤكد الوعيد كَمَا تُؤَكِّدُ الْوَعِيدَ فِي قَوْلِكَ: سَأَنْتَقِمُ مِنْكَ يَوْمًا يَعْنِي: أَنَّكَ لَا تَفُوتُنِي وَإِنْ تَبَطَّأَ ذَلِكَ. وَنَحْوُهُ: سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا «١» وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ «٢» سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ «٣» انْتَهَى. وَفِيهِ دَفِينَةٌ خَفِيَّةٌ مِنَ الِاعْتِزَالِ بِقَوْلِهِ:

السِّينُ مُفِيدَةٌ وُجُوبَ الرَّحْمَةِ لَا مَحَالَةَ، يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى إِثَابَةُ الطَّائِعِ، كَمَا تَجِبُ عُقُوبَةُ الْعَاصِي. وَلَيْسَ مَدْلُولُ السِّينِ تَوْكِيدُ مَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ، إِنَّمَا تَدُلُّ عَلَى تَخْلِيصِ الْمُضَارِعِ لِلِاسْتِقْبَالِ فَقَطْ. وَلَمَّا كَانَتِ الرَّحْمَةُ هُنَا عِبَارَةً عَمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَى تِلْكَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ فِي الْآخِرَةِ، أَتَى بِالسِّينِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى اسْتِقْبَالِ الْفِعْلِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَالِبٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، قَادِرٌ عَلَيْهِ، حَكِيمٌ وَاضِعٌ كُلًّا مَوْضِعَهُ.

وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ: لَمَّا أَعْقَبَ الْمُنَافِقِينَ بِذِكْرِ مَا وَعَدَهُمْ بِهِ مِنَ نَارِ جَهَنَّمَ، أَعْقَبَ الْمُؤْمِنِينَ بِذِكْرِ مَا وَعَدَهُمْ بِهِ مِنَ نَعِيمِ الْجِنَانِ. وَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ: سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ «٤» وَعْدًا إِجْمَالِيًّا فَصَّلَهُ هُنَا تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ تِلْكَ الرَّحْمَةَ هِيَ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ، وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ دُورُ الْمُقَرَّبِينَ. وَقِيلَ: دُورٌ فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ مُخْتَلِفَةٌ فِي الصِّفَاتِ بِاخْتِلَافِ حَالِ الْحَالَيْنِ بِهَا. وَقِيلَ: قُصُورُ زَبَرْجَدٍ وَدُرٍّ وَيَاقُوتٍ يَفُوحُ طِيبُهَا مِنْ مَسِيرَةِ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ فِي أَمَاكِنِ إِقَامَتِهِمْ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «قَصْرٌ فِي الْجَنَّةِ مِنَ اللُّؤْلُؤِ فِيهِ سَبْعُونَ دَارًا مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ، وَفِي كُلِّ دَارٍ سَبْعُونَ بَيْتًا مِنْ زُمُرُدَةٍ خَضْرَاءَ، فِي كُلِّ بَيْتٍ سَبْعُونَ سَرِيرًا»

وَذُكِرَ فِي آخِرِ هَذَا الْحَدِيثِ أَشْيَاءُ، وَإِنْ صَحَّ هَذَا النَّقْلُ عَنِ الرَّسُولِ وَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ. فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ أَيْ: إِقَامَةٍ. وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: هِيَ بِالْفَارِسِيَّةِ الْكُرُومِ وَالْأَعْنَابِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَأَظُنُّ هَذَا مَا اخْتَلَطَ بِالْفِرْدَوْسِ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: عَدْنٌ بُطْنَانُ الْجَنَّةِ وَشَرْقُهَا، وَعَنْهُ: وَسَطُ الْجَنَّةِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ، جِنَانُهُ عَلَى حَافِيَتِهِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ: مَدِينَةُ الْجَنَّةِ، وَعِظَمُهَا فِيهَا الْأَنْبِيَاءُ وَالْعُلَمَاءُ وَالشُّهَدَاءُ وَأَئِمَّةُ الْعَدْلِ وَالنَّاسُ حَوْلَهُمْ بَعْدُ، وَالْجَنَّاتُ حَوْلَهَا. وَقَالَ الْحَسَنُ: قَصْرٌ في الجن لَا يَدْخُلُهُ إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ صِدِّيقٌ أَوْ شَهِيدٌ أو حكم عدل، ومدتها صَوْتَهُ. وَعَنْهُ: قُصُورٌ مِنَ اللؤلؤ والياقوت الأحمر


(١) سورة مريم: ١٩/ ٩٦.
(٢) سورة الضحى: ٩٣/ ٥.
(٣) سورة النساء: ٤/ ١٥٢.
(٤) سورة التوبة: ٩/ ٧١. [.....]

<<  <  ج: ص:  >  >>