للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أسيئي بنا أو أحسبني لا ملومة أي: لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمُ اسْتَغْفَرْتَ لهم أو لا تستغفر لَهُمْ، وَلَا نَلُومُكَ أَحْسَنْتِ إِلَيْنَا أَوْ أَسَأْتِ.

فَإِنْ قِيلَ: مَتَى يَجُوزُ نَحْوُ هَذَا؟ قُلْتُ: إِذَا دَلَّ الْكَلَامُ عَلَيْهِ كَمَا كَانَ فِي قَوْلِكَ: غَفَرَ اللَّهُ لِزَيْدٍ وَرَحِمَهُ (فَإِنْ قُلْتَ) : لِمَ فَعَلَ ذَلِكَ؟ (قُلْتُ) : لِنُكْتَةٍ وَهِيَ أَنَّ كَثِيرًا كَأَنَّهُ يَقُولُ لِعَزَّةَ: امْتَحِنِي لُطْفَ مَحَلِّكِ عِنْدِي، وَقُوَّةَ مَحَبَّتِي لَكِ، وَعَامِلِينِي بِالْإِسَاءَةِ وَالْإِحْسَانِ، وَانْظُرِي هَلْ تَتَفَاوَتُ حَالِي مَعَكِ مُسِيئَةً كُنْتِ أَوْ مُحْسِنَةً. وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُ الْقَائِلِ:

أُحَوِّلُ الَّذِي إِنْ قُمْتَ بِالسَّيْفِ عَامِدًا ... لِتَضْرِبَهُ لَمْ يَسْتَغْشِكَ فِي الْوُدِّ

وَكَذَلِكَ الْمَعْنَى أَنْفِقُوا وَانْظُرُوا هَلْ يُتَقَبَّلُ مِنْكُمْ، وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرُ لَهُمْ وَانْظُرْ هَلْ تَرَى خِلَافًا بَيْنَ حَالَيِ الِاسْتِغْفَارِ وَتَرْكِهِ؟ انْتَهَى. وَقِيلَ: هُوَ أَمْرٌ مُبَالَغَةٍ فِي الْإِيَاسِ وَمَعْنَاهُ: أَنَّكَ لَوْ طَلَبْتَ الِاسْتِغْفَارَ لَهُمْ طَلَبَ الْمَأْمُورِ، أَوْ تَرَكْتَهُ تَرْكَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، لَمْ يُغْفَرْ لَهُمْ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ الِاسْتِوَاءُ أَيْ: اسْتِغْفَارُكَ لَهُمْ وَتَرْكُ الِاسْتِغْفَارِ سَوَاءٌ. (فَإِنْ قُلْتَ) : كَيْفَ جَازَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُمْ وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ كَفَرُوا؟ فَالْجَوَابُ قَالُوا مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ ذَلِكَ كَانَ عَلَى سَبِيلِ التَّأْلِيفِ لِيَخْلُصَ إِيمَانُ كَثِيرٍ مِنْهُمْ.

وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا اسْتَغْفَرَ لِابْنِ سَلُولَ وَكَسَاهُ ثَوْبَهُ، وَصَلَّى عَلَيْهِ، أَسْلَمَ أَلْفٌ مِنَ الْخَزْرَجِ لَمَّا رَأَوْهُ يَطْلُبُ الِاسْتِشْفَاءَ بِثَوْبِ الرَّسُولِ، وَكَانَ رَأْسَ الْمُنَافِقِينَ وَسَيِّدَهُمْ.

وَقِيلَ: فَعَلَ ذَلِكَ تَطْيِيبًا لِقَلْبِ وَلَدِهِ وَمَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ، وَهَذَا قَرِيبٌ مِمَّا قَبْلَهُ.

وَقِيلَ: كَانَ الْمُؤْمِنُونَ يَسْأَلُونَ الرَّسُولَ صَلَّى الله عليه وسلم أن يَسْتَغْفِرَ لِقَوْمِهِمُ الْمُنَافِقِينَ فِي حَيَاتِهِمْ رَجَاءَ أَنْ يُخْلِصُوا فِي إِيمَانِهِمْ، وَبَعْدَ مَمَاتِهِمْ رَجَاءَ الْغُفْرَانِ، فَنَهَاهُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ وَأَيْأَسَهُمْ مِنْهُ، وَقَدْ سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الرَّسُولَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لِأَبِيهِ رَجَاءَ أَنْ يُخَفَّفَ عَنْهُ.

وَقِيلَ: إِنَّمَا اسْتَغْفَرَ لِقَوْمٍ مِنْهُمْ عَلَى ظَاهِرِ إِسْلَامِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُحَقِّقَ خُرُوجَهُمْ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَرَدَّ هَذَا الْقَوْلَ بِأَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ غَيْرُ عَالِمٍ بِكُفْرِهِمْ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: الْأَقْرَبُ فِي تَعَلُّقِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا مَا ذَكَرَهُ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الَّذِينَ كَانُوا يَلْمِزُونَ هُمُ الَّذِينَ طَلَبُوا الِاسْتِغْفَارَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْتَغَلَ بِالِاسْتِغْفَارِ فَنَهَاهُ عَنْهُ لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُنَافِقَ كَافِرٌ، وَقَدْ ظَهَرَ فِي شَرْعِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ الِاسْتِغْفَارَ لِلْكَافِرِ لَا يَجُوزُ، فَلِهَذَا السَّبَبِ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالِاقْتِدَاءِ بِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ إِلَّا فِي قَوْلِهِ:

لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَإِذَا كَانَ هَذَا مَشْهُورًا فِي الشَّرْعِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ؟ الثَّانِي: أَنَّ اسْتِغْفَارَ الْغَيْرِ لِلْغَيْرِ لَا يَنْفَعُهُ إِذَا كَانَ ذَلِكَ الْغَيْرُ مُصِرًّا عَلَى الْقَبِيحِ وَالْمَعْصِيَةِ. الثَّالِثُ: أَنَّ

<<  <  ج: ص:  >  >>