للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالْكَلَامِ الْمُبَهْرَجِ الَّذِي لَا يَرْجِعُ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَإِلَى سُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالتَّجَرِي عَلَى الْإِخْبَارِ الْكَاذِبِ عَنِ الْمُغَيَّبَاتِ، لَقَضَى مِنْ ذَلِكَ الْعَجَبِ. وَمَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ مِثْلَ مَا حَكَى قَتَادَةُ يَقَعُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ لِقُرْبِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَكَثْرَةِ الْخَيْرِ، لَكِنَّ شَيَاطِينَ الْإِنْسِ يَبْعُدُ أَنْ يَخْلُوَ مِنْهُمْ زَمَانٌ. نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: نَطَّلِعُ عَلَى سِرِّهِمْ، لِأَنَّهُمْ يُبْطِنُونَ الْكُفْرَ فِي سُوَيْدَاءِ قُلُوبِهِمْ إِبْطَانًا، وَيُبْرِزُونَ لَكَ ظَاهِرًا كَظَاهِرِ الْمُخْلِصِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، لَا تَشُكُّ مَعَهُ فِي إِيمَانِهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ وَضُرُوبِهِ، وَلَهُمْ فِيهِ الْيَدُ الطُّولَى انْتَهَى. وَفِي قَوْلِهِ:

نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ تَهْدِيدٌ وَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ. وَالظَّاهِرُ إِرَادَةُ التَّثْنِيَةِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لَا يُرَادُ بِهَا شَفْعُ الْوَاحِدِ، بَلْ يَكُونُ الْمَعْنَى عَلَى التَّكْثِيرِ كَقَوْلِهِ: ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ «١» أَيْ كَرَّةً بَعْدَ كَرَّةٍ. كَذَلِكَ يَكُونُ مَعْنَى هَذَا سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ. وَإِذَا كَانَتِ التَّثْنِيَةُ مُرَادَّةً فَأَكْثَرُ النَّاسِ عَلَى أَنَّ الْعَذَابَ الثَّانِيَ هُوَ عَذَابُ الْقَبْرِ، وَأَمَّا الْمَرَّةُ الْأُولَى فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي الْأَشْهَرِ عَنْهُ: هُوَ فَضِيحَتُهُمْ وَوَصْمُهُمْ بِالنِّفَاقِ.

وَرُوِيَ فِي هَذَا التَّأْوِيلِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَطَبَ يَوْمَ جُمُعَةِ بَدْرٍ فَنَدَرَ بِالْمُنَافِقِينَ وَصَرَّحَ وَقَالَ: «اخْرُجْ يَا فُلَانُ مِنَ الْمَسْجِدِ فَإِنَّكَ مُنَافِقٌ، وَاخْرُجْ أَنْتَ يَا فُلَانُ، وَاخْرُجْ أَنْتَ يَا فُلَانُ» حَتَّى أَخْرَجَ جَمَاعَةً مِنْهُمْ، فَرَآهُمْ عُمَرُ يَخْرُجُونَ مِنَ الْمَسْجِدِ وَهُوَ مُقْبِلٌ إِلَى الْجُمُعَةِ فَظَنَّ أَنَّ النَّاسَ انْتَشَرُوا، وَأَنَّ الْجُمُعَةِ فَاتَتْهُ، فَاخْتَفَى مِنْهُمْ حَيَاءً، ثُمَّ وَصَلَ الْمَسْجِدَ فَرَأَى أَنَّ الصَّلَاةَ لَمْ تُقْضَ وَفَهِمَ الْأَمْرِ.

قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَفِعْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على جهة التأديب اجتهاد مِنْهُ فِيهِمْ، وَلَمْ يَسْلُخْهُمْ ذَلِكَ مِنَ الْإِسْلَامِ، وَإِنَّمَا هُوَ كَمَا يَخْرُجُ الْعُصَاةُ وَالْمُتَّهَمُونَ، وَلَا عَذَابَ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثِيرًا مَا يَتَكَلَّمُ فِيهِمْ عَلَى الْإِجْمَالِ دُونَ تَعْيِينٍ، فَهَذَا أَيْضًا مِنَ الْعَذَابِ انْتَهَى. وَيَبْعُدُ مَا قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ لِأَنَّهُ نَصٌّ عَلَى نِفَاقِ مَنْ أُخْرِجَ بِعَيْنِهِ، فَلَيْسَ مِنْ بَابِ إِخْرَاجِ الْعُصَاةِ، بَلْ هَؤُلَاءِ كُفَّارٌ عِنْدَهُ وَإِنْ أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ: الْعَذَابُ الْأَوَّلُ عِلَلٌ وَأَدْوَاءٌ أَخْبَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ أَنَّهُ سَيُصِيبُهُمْ بِهَا،

وَرُوِيَ أَنَّهُ أَسَرَّ إِلَى حُذَيْفَةَ بِاثْنَيْ عَشَرَ مِنْهُمْ وَقَالَ: «سِتَّةٌ مِنْهُمْ تَكْفِيهِمُ الدُّبَيْلَةُ سِرَاجٌ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ تَأْخُذُ فِي كَتِفِ أَحَدِهِمْ حَتَّى تُفْضِيَ إِلَى صَدْرِهِ، وَسِتَّةٌ يَمُوتُونَ مَوْتًا»

وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ عَذَابُهُمْ بِالْقَتْلِ وَالْجُوعِ. قِيلَ: وَهَذَا بَعِيدٌ، لِأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُصِبْهُ هَذَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: هو هو أنهم بِإِقَامَةِ حُدُودِ الشَّرْعِ عَلَيْهِمْ مَعَ كَرَاهِيَتِهِمْ فِيهِ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: هُوَ هَمُّهُمْ بِظُهُورِ الْإِسْلَامِ وَعُلُوِّ كَلِمَتِهِ. وَقِيلَ: ضَرْبُ الْمَلَائِكَةِ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ عِنْدَ قَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْأَوَّلُ مَا يُؤْخَذُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ قَهْرًا، والثاني


(١) سورة الملك: ٦٧/ ٤٠. [.....]

<<  <  ج: ص:  >  >>