للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يُسَمَّى قَتِيلًا عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، قَالَ: وَهَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَ اللَّهُ بِهِ، لِأَنَّ الْعِبَادَاتِ الشَّرْعِيَّةَ إِنَّمَا تَحْسُنُ لِكَوْنِهَا مَصَالِحُ لِذَلِكَ الْمُكَلَّفِ، وَلَا يَكُونُ مَصْلَحَةً إِلَّا فِي الْأُمُورِ الْمُسْتَقْبَلَةِ، وَلَيْسَ بَعْدَ الْقَتْلِ حَالُ تَكْلِيفٍ حَتَّى يَكُونَ الْقَتْلُ مَصْلَحَةً فِيهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا يَفْعَلُهُ اللَّهُ مِنَ الْإِمَاتَةِ، لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى، فَيَحْسُنُ أَنْ يَفْعَلَهُ إِذَا كَانَ صَلَاحًا لِمُكَلَّفٍ آخَرَ، وَبِخِلَافِ أَنْ يَأْمُرَ اللَّهُ بِأَنْ يَجْرَحَ نَفْسَهُ أَوْ يَقْطَعَ عُضْوًا مِنْ أَعْضَائِهِ، وَلَا يَحْصُلَ الْمَوْتُ عَقِيبَهُ، لِأَنَّهُ لَمَّا بَقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ الْفِعْلِ حَيًّا لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْفِعْلُ صَلَاحًا فِي الْأَفْعَالِ الْمُسْتَقْبَلَةِ. انْتَهَى كَلَامُهُ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى قَاعِدَتِهِمْ فِي الِاعْتِزَالِ مِنْ مُرَاعَاةِ الْمَصْلَحَةِ.

وَالْكَلَامُ مَعَهُمْ فِي ذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي أُصُولِ الدِّينِ، مَعَ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ هُنَا بِالْمَصْلَحَةِ، لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْقَتْلِ لَيْسَ إِلَّا مِنْ بَابِ الزَّوَاجِرِ وَالرَّوَادِعِ، وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ ذَلِكَ اعْتِبَارُ حَالِ الْمُكَلَّفِ، بَلْ يَصْنَعُ الزَّوَاجِرَ لِازْدِجَارِ غَيْرِهِ. وَإِذَا فَعَلَ مِثْلَ هَذَا الْفِعْلِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُوَ الْقَتْلُ بِمَنْ عَبَدَ الْعِجْلَ، اتَّعَظَ بِهِ غَيْرُهُ وَانْكَفَّ عَنِ الْوُقُوعِ فِيمَا لَا يَكُونُ التَّوْبَةُ مِنْهُ إِلَّا بِالْقَتْلِ.

وَقَرَأَ قَتَادَةُ فِيمَا نَقَلَ الَمَهْدَوِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ وَالتَّبْرِيزِيُّ وَغَيْرُهُمْ: فَأَقِيلُوا أَنْفُسَكُمْ، وَقَالَ الثَّعْلَبِيُّ: قَرَأَ قَتَادَةُ: فاقتلوا أَنْفُسَكُمْ. فَأَمَّا فَأَقِيلُوا، فَهُوَ أَمْرٌ مِنَ الْإِقَالَةِ، وَكَأَنَّ الْمَعْنَى: أَنَّ أَنْفُسَكُمْ قَدْ تَوَرَّطَتْ فِي عَذَابِ اللَّهِ بِهَذَا الْفِعْلِ الْعَظِيمِ الَّذِي تَعَاطَيْتُمُوهُ مِنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ، وَقَدْ هَلَكَتْ فَأَقِيلُوهَا بِالتَّوْبَةِ وَالْتِزَامِ الطَّاعَةِ، وَأَزِيلُوا آثَارَ تِلْكَ الْمَعَاصِي بِإِظْهَارِ الطَّاعَاتِ.

وَأَمَّا فَاقْتَالُوا أَنْفُسَكُمْ، فَقَالُوا: هُوَ افْتَعَلَ بِمَعْنَى اسْتَفْعَلَ، أَيْ فَاسْتَقِيلُوهَا، وَالْمَشْهُورُ اسْتَقَالَ لَا اقْتَالَ. قَالَ ابْنُ جِنِّي: يَضْعُفُ أَنْ يَكُونَ عَيْنُهَا وَاوًا كَاقْتَادُوا، وَيُحْتَمَلُ أْنَ تَكُونَ يَاءً كَأَقْيَاسٍ، وَالتَّصْرِيفُ يَضْعُفُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الِاسْتِقَالَةِ، كَمَا قَالَ ابْنُ جِنِّي، فَهَذِهِ اللَّفْظَةُ لَا شَكَّ مَسْمُوعَةٌ بِدَلِيلِ نَقْلِ قَتَادَةَ لَهَا وَيَكُونُ مِمَّا جَاءَتْ فِيهِ افْتَعَلَ بِمَعْنَى اسْتَفْعَلَ، وَهُوَ أَحَدُ الْمَعَانِي الَّتِي جَاءَتْ لَهَا افْتَعَلَ، وَذَلِكَ نَحْوَ: اعْتَصَمَ وَاسْتَعْصَمَ. قَالَ السُّلَمِيُّ: فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ. ارْجِعُوا إِلَيْهِ بِأَسْرَارِكُمْ وَقُلُوبِكُمْ، فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ بِالتَّبَرِّي مِنْهَا، فَإِنَّهَا لَا تَصْلُحُ لِبِسَاطِ الْأُنْسِ. وَقَالَ الْوَاسِطِيُّ: كَانَتْ تَوْبَةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَتْلَ أَنْفُسِهِمْ، وَلِهَذِهِ الْأُمَّةِ أَشَدُّ، وَهُوَ إِفْنَاءُ نُفُوسِهِمْ عَنْ مُرَادِهَا مَعَ بَقَاءِ رُسُومِ الْهَيَاكِلِ. وَقَالَ فَارِسٌ: التَّوْبَةُ مَحْوُ الْبَشَرِيَّةِ بِمُبَايَنَاتِ الْإِلَهِيَّةِ. وَقِيلَ: تُوبُوا إِلَيْهِ مِنْ أَفْعَالِكُمْ وَأَقْوَالِكُمْ وَطَاعَاتِكُمْ، وَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ فِي طَاعَاتِهِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ عَمَّا دُونَ اللَّهِ وَعَنِ اللَّهِ بِالْفَرَاغِ مِنْ طَلَبِ الْجَزَاءِ حَتَّى تَرْجِعَ إِلَى أَصْلِ الْعَدَمِ، وَيَبْقَى الْحَقُّ كَمَا لَمْ يَزَلْ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ اللَّطَائِفِ: التَّوْبَةُ بِقَتْلِ النَّفْسِ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ، لِأَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ لَهُمْ قَتْلُ أَنْفُسِهِمْ جَهْرًا، وَهَذِهِ الْأُمَّةُ قَتْلُ أَنْفُسِهِمْ فِي

<<  <  ج: ص:  >  >>