(فَإِنْ قُلْتَ) : فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ؟ (قُلْتُ) : لَمَّا جُعِلَ الْجُرُفُ الْهَائِرُ مَجَازًا عَنِ الْبَاطِلِ قِيلَ: فَانْهَارَ بِهِ عَلَى مَعْنَى فَطَاحَ بِهِ الْبَاطِلُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، إِلَّا أَنَّهُ رَشَّحَ الْمَجَازَ فَجِيءَ بِلَفْظِ الِانْهِيَارِ الَّذِي هُوَ لِلْجُرُفِ، وَلِتَصَوُّرِ أَنَّ الْبَاطِلَ كَأَنَّهُ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ مِنْ أَوْدِيَةِ جَهَنَّمَ فَانْهَارَ بِهِ ذَلِكَ الْجُرُفُ فَهَوَى فِي قَعْرِهَا، وَلَا نَرَى أَبْلَغَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ وَلَا أَدَلَّ عَلَى حَقِيقَةِ الْبَاطِلِ. وَكُنْهِ أَمْرِهِ وَالْفَاعِلُ فَانْهَارَ أَيْ: الْبُنْيَانُ أَوِ الشَّفَا أَوِ الْجُرُفُ بِهِ، أَيْ: الْمُؤَسِّسِ الْبَانِي، أَوِ انْهَارَ الشَّفَا أَوِ الْجُرُفُ بِهِ أَيْ: بِالْبُنْيَانِ. وَيَسْتَلْزِمُ انْهِيَارَ الشَّفَا وَالْبُنْيَانِ، وَلَا يَسْتَلْزِمُ انْهِيَارُ أَحَدِهِمَا انْهِيَارَهُ. وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، إِشَارَةٌ إِلَى تَعَدِّيهِمْ وَوَضْعِ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ حَيْثُ بَنَوْا مَسْجِدَ الضِّرَارِ، إِذِ الْمَسَاجِدُ بُيُوتُ اللَّهِ يَجِبُ أَنْ يُخْلَصَ فِيهَا الْقَصْدُ وَالنِّيَّةُ لِوَجْهِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ، فَبَنَوْهُ ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ.
لَا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ:
يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْبُنْيَانُ هُنَا مَصْدَرًا أَيْ: لَا يَزَالُ ذَلِكَ الْفِعْلُ وَهُوَ الْبُنْيَانُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمَبْنَى، فَيَكُونُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: لَا يَزَالُ بِنَاءَ الْمَبْنَى. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا يَزَالُونَ شَاكِّينَ. وَقَالَ حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ: غَيْظًا فِي قُلُوبِهِمْ، أَيْ سَبَبَ غَيْظٍ. وَقِيلَ: كُفْرًا فِي قُلُوبِهِمْ. وَقَالَ عَطَاءٌ: نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: أَسَفًا وَنَدَامَةً. وَقَالَ ابْنُ السَّائِبِ وَمُقَاتِلٌ: حَسْرَةً وَنَدَامَةً، لِأَنَّهُمْ نَدِمُوا عَلَى بُنْيَانِهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ:
لَا يَزَالُ هَدْمُ بُنْيَانِهِمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً أَيْ: حَزَازَةً وَغَيْظًا فِي قُلُوبِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الَّذِي بَنَوْا تَأْكِيدٌ وَتَصْرِيحٌ بِأَمْرِ الْمَسْجِدِ وَرَفْعُ الْإِشْكَالِ، وَالرِّيبَةُ الشَّكُّ، وَقَدْ يُسَمَّى رِيبَةً فَسَادُ الْمُعْتَقَدِ وَاضْطِرَابُهُ، وَالْإِعْرَاضُ فِي الشَّيْءِ وَالتَّخْبِيطُ فِيهِ. وَالْحَزَازَةُ مِنْ أَجْلِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَكًّا فَقَدْ يَرْتَابُ مَنْ لَا يَشُكُّ، وَلَكِنَّهَا فِي مُعْتَادِ اللُّغَةِ تَجْرِي مَعَ الشَّكِّ. وَمَعْنَى الرِّيبَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَعُمُّ الْحَيْقَ، وَاعْتِقَادَ صَوَابِ فِعْلِهِمْ، وَنَحْوَ هَذَا مِمَّا يُؤَدِّي كُلُّهُ إِلَى الرِّيبَةِ فِي الْإِسْلَامِ. فَمَقْصِدُ الْكَلَامِ: لَا يَزَالُ هَذَا الْبُنْيَانُ الَّذِي هُدِمَ لَهُمْ يُبْقِي فِي قُلُوبِهِمْ حَزَازَةً وَأَثَرَ سُوءٍ. وَبِالشَّكِّ فَسَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ الرِّيبَةَ هُنَا، وَفَسَّرَهَا السُّدِّيُّ بِالْكُفْرِ. وَقِيلَ لَهُ: أَفَكَفَرَ مُجَمِّعُ بْنُ جَارِيَةَ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنَّهَا حَزَازَةٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمُجَمِّعٌ رَحِمَهُ اللَّهُ، قَدْ أَقْسَمَ لِعُمَرَ أَنَّهُ مَا عَلِمَ بَاطِنَ القوم، ولا قصد سوء. وَالْآيَةُ إِنَّمَا عَنَتْ مَنْ أَبْطَنَ سُوءًا. وَلَيْسَ مُجَمِّعٌ مِنْهُمْ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى لَا يَزَالُونَ مُرِيبِينَ بِسَبَبِ بُنْيَانِهِمُ الَّذِي اتَّضَحَ فِيهِ نِفَاقُهُمْ.
وَجُمْلَةُ هَذَا أَنَّ الرِّيبَةَ فِي الْآيَةِ نعم مَعَانِيَ كَثِيرَةً يَأْخُذُ كُلُّ مُنَافِقٍ مِنْهَا بِحَسَبِ قَدْرِهِ مِنَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute