للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَقُلْتُ لَهُمْ ظُنُّوا بِأَلْفَيْ مدحج ... سَرَاتُهُمُ فِي الْفَارِسِيِّ الْمُسَرَّدِ

وَقَالَ قَوْمٌ: الظَّنُّ هُنَا عَلَى بَابِهِ مِنْ تَرْجِيحِ أَحَدِ الْجَائِزَيْنِ، لِأَنَّهُ وَقَفَ أَمْرُهُمْ عَلَى الْوَحْيِ وَلَمْ يَكُونُوا قَاطِعِينَ بِأَنَّهُ يَنْزِلُ فِي شَأْنِهِمْ قُرْآنٌ، أَوْ كَانُوا قَاطِعِينَ لَكِنَّهُمْ يُجَوِّزُونَ تَطْوِيلَ الْمُدَّةِ فِي بَقَائِهِمْ فِي الشِّدَّةِ، فَالظَّنُّ عَادَ إِلَى تَجْوِيزِ تِلْكَ الْمُدَّةِ قَصِيرَةً. وَجَاءَتْ هَذِهِ الْجُمَلُ فِي كَنَفِ إِذَا فِي غَايَةِ الْحُسْنِ وَالتَّرْتِيبِ، فَذَكَرَ أَوَّلًا ضِيقَ الْأَرْضِ عَلَيْهِمْ وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ اسْتِيحَاشِهِمْ، وَنَبْوَةِ النَّاسِ عَنْ كَلَامِهِمْ. وَثَانِيًا وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ تَوَاتُرِ الْهَمِّ وَالْغَمِّ عَلَى قُلُوبِهِمْ، حَتَّى لَمْ يَكُنْ فِيهَا شَيْءٌ مِنَ الِانْشِرَاحِ وَالِاتِّسَاعِ، فَذَكَرَ أَوَّلًا ضِيقَ الْمَحَلِّ، ثُمَّ ثَانِيًا ضِيقَ الْحَالِ فِيهِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَضِيقُ الْمَحَلُّ وَتَكُونُ النَّفْسُ مُنْشَرِحَةً سَمُّ الْخِيَاطِ مَعَ الْمَحْبُوبِ مَيْدَانُ. ثُمَّ ثَالِثًا لَمَّا يئسوا من الخلق عذقوا أُمُورَهُمْ بِاللَّهِ وَانْقَطَعُوا إِلَيْهِ، وَعَلِمُوا أَنَّهُ لَا يُخَلِّصُ مِنَ الشِّدَّةِ وَلَا يُفَرِّجُهَا إِلَّا هُوَ تَعَالَى ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ «١» وإذا إِنْ كَانَتْ شَرْطِيَّةً فَجَوَابُهَا مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: تَابَ عَلَيْهِمْ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ، نَظِيرَ قَوْلِهِ: ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ، بَعْدَ قَوْلِهِ لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ «٢» الْآيَةَ.

وَدَعْوَى أَنَّ ثُمَّ زَائِدَةٌ وَجَوَابَ إِذَا مَا بَعْدَ ثُمَّ بَعِيدٌ جِدًّا، وَغَيْرُ ثَابِتٌ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ زِيَادَةُ ثُمَّ.

وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ إِذَا بَعْدَ حَتَّى قَدْ تُجَرِّدُ مِنَ الشَّرْطِ وَتَبْقَى لِمُجَرَّدِ الْوَقْتِ فَلَا تَحْتَاجُ إِلَى جَوَابٍ بَلْ تَكُونُ غَايَةً لِلْفِعْلِ الَّذِي قَبْلَهَا وَهُوَ قَوْلُهُ: خُلِّفُوا أَيْ: خُلِّفُوا إِلَى هَذَا الْوَقْتِ، ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا، ثُمَّ رَجَعَ عَلَيْهِمْ بِالْقَبُولِ وَالرَّحْمَةِ كَرَّةً أُخْرَى لِيَسْتَقِيمُوا عَلَى تَوْبَتِهِمْ وَيُنِيبُوا، أَوْ لِيَتُوبُوا أَيْضًا فِيمَا يُسْتَقْبَلُ إِنْ فَرَطَتْ مِنْهُمْ خَطِيئَةٌ عِلْمًا مِنْهُمْ أَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ عَلَى مَنْ تَابَ، وَلَوْ عَادَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ. وَقِيلَ: مَعْنَى لِيَتُوبُوا لِيَدُومُوا عَلَى التَّوْبَةِ وَلَا يُرَاجِعُوا مَا يُبْطِلُهَا. وَقِيلَ:

لِيَتُوبُوا، لِيَرْجِعُوا إِلَى حَالِهِمْ وَعَادَتِهِمْ مِنَ الِاخْتِلَاطِ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَتَسْتَكِنُّ نُفُوسُهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ.

قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَوْلُهُ: ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا، لَمَّا كَانَ هَذَا الْقَوْلُ فِي تَعْدِيدِ نِعَمِهِ بَدَأَ فِي تَرْتِيبِهِ بِالْجِهَةِ الَّتِي هِيَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى لِيَكُونَ ذَلِكَ مُنَبِّهًا عَلَى تَلَقِّي النِّعْمَةِ مِنْ عِنْدِهِ لَا رَبَّ غَيْرُهُ، وَلَوْ كَانَ الْقَوْلُ فِي تَعْدِيدِ ذَنْبٍ لَكَانَ الِابْتِدَاءُ بِالْجِهَةِ الَّتِي هِيَ عَنِ الْمُذْنِبِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ «٣» لِيَكُونَ هَذَا أَشَدَّ تَقْرِيرًا لِلذَّنْبِ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا مِنْ فَصَاحَةِ الْقُرْآنِ وَبَدِيعِ نَظْمِهِ وَمُعْجِزِ اتِّسَاقِهِ. وَبَيَانُ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَوَاقِعِ أَلْفَاظِهَا أَنَّهَا تكمل مع


(١) سورة النحل: ١٦/ ٥٣.
(٢) سورة الصف: ٦١/ ٥.
(٣) سورة الصف: ٦١/ ٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>