جَهْرَةٍ، أَوْ عَلَى مَعْنَى جَاهِرِينَ بِالرُّؤْيَةِ لَا عَلَى طَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ نَحْوَ: رَجُلٌ صَوْمٌ، لِأَنَّ الْمُبَالَغَةَ لَا تُرَادُ هُنَا. فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ تَكُونُ الْجَهْرَةُ مِنْ صِفَاتِ الرُّؤْيَةِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَكُونُ مِنْ صِفَاتِ الرَّائِينَ، وَثَمَّ قَوْلٌ ثَالِثٌ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا لِمَعْنَى الْقَوْلِ، أَوِ الْقَائِلِينَ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: وَإِذْ قُلْتُمْ كَذَا قَوْلًا جَهْرَةً أَوْ جَاهِرِينَ بِذَلِكَ الْقَوْلِ، لَمْ يُسِرُّوهُ وَلَمْ يَتَكَاتَمُوا بِهِ، بَلْ صَرَّحُوا بِهِ وَجَهَرُوا بِأَنَّهُمْ أَخْبَرُوا بِانْتِفَاءِ الْإِيمَانِ مغيابا لرؤية. وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْجَهْرَةَ رَاجِعٌ لِمَعْنَى الْقَوْلِ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي عُبَيْدَةَ، وَالظَّاهِرُ تَعَلُّقُهُ بِالرُّؤْيَةِ لَا بِالْقَوْلِ، وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ التَّرْكِيبُ الْفَصِيحُ.
وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَهْلُ بْنُ شُعَيْبٍ وَحُمَيْدُ بْنُ قَيْسٍ: جَهَرَةً، بِفَتْحِ الْهَاءِ، وَتَحْتَمِلُ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ جَهَرَةً مَصْدَرًا كَالْغَلَبَةِ، فَتَكُونُ مَعْنَاهَا وَمَعْنَى جَهْرَةً الْمُسَكَّنَةِ الْهَاءِ سَوَاءً، وَيَجْرِي فِيهَا مِنَ الْإِعْرَابِ الْوُجُوهُ الَّتِي سَبَقَتْ فِي جَهْرَةً. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ جَمْعًا لَجَاهِرٍ، كَمَا تَقُولُ: فَاسِقٌ وَفَسَقَةٌ، فَيَكُونُ انْتِصَابُهُ عَلَى الْحَالِ، أَيْ جَاهِرِينَ بِالرُّؤْيَةِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَفِي هَذَا الْكَلَامِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ رَادَّهُمْ، وَعَرَّفَهُمْ أَنَّ رُؤْيَةَ مَا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ فِي جِهَةٍ مُحَالٌ، وَأَنَّ مَنِ اسْتَجَازَ عَلَى اللَّهِ الرُّؤْيَةَ، فَقَدْ جَعَلَهُ مِنْ جُمْلَةِ الْأَقْسَامِ أَوِ الْإِعْرَاضِ، فَرَادُّوهُ بَعْدَ بَيَانِ الْحُجَّةِ وَوُضُوحِ الْبُرْهَانِ، وَلَجُّوا فَكَانُوا فِي الْكُفْرِ كَعَبَدَةِ الْعِجْلِ، فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الصَّاعِقَةَ، كَمَا سَلَّطَ عَلَى أُولَئِكَ الْقَتْلَ، تَسْوِيَةً بَيْنَ الْكُفْرَيْنِ، وَدَلَالَةً عَلَى عِظَمِهَا بِعِظَمِ الْمِحْنَةِ. اهـ. كَلَامُهُ. وَهُوَ مُصَرِّحٌ بِاسْتِحَالَةِ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْأَبْصَارِ. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا خِلَافٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ.
ذَهَبَتِ الْقَدَرِيَّةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ وَالنَّجَّارِيَّةُ وَالْجَهْمِيَّةُ وَمَنْ شَارَكَهُمْ مِنَ الْخَوَارِجِ إِلَى اسْتِحَالَةِ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْبَارِي سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَذَهَبَ أَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ إِلَى إِثْبَاتِ الرُّؤْيَةِ. فَقَالَ الْكَرَّامِيَّةُ: يُرَى فِي جِهَةِ فَوْقَ وَلَهُ تَحْتٌ، وَيُرَى جِسْمًا، وَقَالَتِ الْمُشَبِّهَةُ: يُرَى عَلَى صُورَةٍ، وَقَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ: لَا مُقَابِلًا، وَلَا مُحَاذِيًا، وَلَا مُتَمَكِّنًا، وَلَا مُتَحَيِّزًا، وَلَا مُتَلَوِّنًا، وَلَا عَلَى صُورَةٍ وَلَا هَيْئَةٍ، وَلَا عَلَى اجْتِمَاعٍ وَجِسْمِيَّةٍ، بَلْ يَرَاهُ الْمُؤْمِنُونَ، يَعْلَمُونَ أَنَّهُ بِخِلَافِ الْمَخْلُوقَاتِ كَمَا عَلِمُوهُ كَذَلِكَ قَبْلُ. وَقَدِ اسْتَفَاضَتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الثَّابِتَةُ فِي رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهَا. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ أَصْعَبِ مَسَائِلِ أُصُولِ الدِّينِ، وَقَدْ رَأَيْتُ لِأَبِي جَعْفَرٍ الطُّوسِيِّ مِنْ فُضَلَاءِ الْإِمَامِيَّةِ فِيهَا مُجَلَّدَةً كَبِيرَةً، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنِ اسْتِحَالَةِ الرُّؤْيَةِ، لَكِنَّ عَادَتَهُ تَحْمِيلُ الْأَلْفَاظِ مَا لَا تَدُلُّ عَلَيْهِ، خُصُوصًا مَا يَجُرُّ إِلَى مَذْهَبِهِ الِاعْتِزَالِيِّ، نُعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْعَصَبِيَّةِ فِيمَا لَا يَنْبَغِي. وَكَذَلِكَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute