للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قَبْلَهَا أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ النَّاسَ إِذَا أصابهم الضر لجأوا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَإِذَا أَذَاقَهُمُ الرَّحْمَةَ، عَادُوا إِلَى عَادَتِهِمْ مِنْ إِهْمَالِ جَانِبِ اللَّهِ وَالْمَكْرِ فِي آيَاتِهِ. وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ قَدْ ذَكَرَ نَحْوًا مِنْ هَذَا فِي قَوْلِهِ: وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ «١» الْآيَةَ. وَكَانَ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَتَيْنِ أَمْرًا كُلِّيًّا، أَوْضَحَ تَعَالَى ذَلِكَ الْأَمْرَ الْكُلِّيَّ بِمِثَالٍ جَلِيٍّ كَاشِفٍ عَنْ حَقِيقَةِ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْكُلِّيِّ يَنْقَطِعُ فِيهِ رَجَاءُ الْإِنْسَانِ عَنْ كُلِّ مُتَعَلَّقٍ بِهِ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، فَيُخْلِصُ لَهُ الدُّعَاءَ وَحْدَهُ فِي كَشْفِ هَذِهِ النَّازِلَةِ الَّتِي لَا يَكْشِفُهَا إِلَّا هُوَ تَعَالَى، وَيَتَبَيَّنُ بُطْلَانُ عِبَادَتِهِ مَا لَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ، وَدَعْوَاهُ أَنَّهُ شَفِيعُهُ عِنْدَ اللَّهِ، ثُمَّ بَعْدَ كَشْفِ هَذِهِ النَّازِلَةِ عَادَ إِلَى عَادَتِهِ مِنْ بَغْيِهِ فِي الْأَرْضِ، فَإِنْجَاؤُهُ تَعَالَى إِيَّاهُمْ هُوَ مِثَالُ مَنْ أَذَاقَهُ الرَّحْمَةَ وَمَا كَانُوا فِيهِ قَبْلُ مِنْ إِشْرَافِهِمْ عَلَى الْهَلَاكِ هُوَ مِثَالٌ مِنَ الضُّرِّ الَّذِي مَسَّهُمْ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَالْحَسَنُ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ جُبَيْرٍ، وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَشَيْبَةُ، وَابْنُ عَامِرٍ: يَنْشُرُكُمْ مِنَ النَّشْرِ وَالْبَثِّ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ أَيْضًا: يَنْشُرُكُمْ مِنَ الْإِنْشَارِ وَهُوَ الْإِحْيَاءُ، وَهِيَ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ. وَقَرَأَ بَعْضُ الشَّامِيِّينَ يُنَشِّرُكُمْ بِالتَّشْدِيدِ لِلتَّكْثِيرِ مِنَ النَّشْرِ الَّذِي هُوَ مُطَاوَعَةُ الِانْتِشَارِ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ وَالْجُمْهُورُ:

يسيركم من التسيير. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: هُوَ تَضْعِيفُ مُبَالَغَةٍ، لَا تَضْعِيفُ تَعْدِيَةٍ، لِأَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: سِرْتُ الرَّجُلَ وَسَيَّرْتُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْهُذَلِيِّ:

فَلَا تَجْزَعَنْ مِنْ سُنَّةٍ أَنْتَ سِرْتَهَا ... فَأَوَّلُ رَاضٍ سُنَّةً مَنْ يَسِيرُهَا

قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَعَلَى هَذَا الْبَيْتِ اعْتِرَاضٌ حَتَّى لَا يَكُونَ شَاهِدًا فِي هَذَا، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ كَالظَّرْفِ كَمَا تَقُولُ: سِرْتُ الطَّرِيقَ انْتَهَى. وَمَا ذَكَرَهُ أَبُو عَلِيٍّ لَا يَتَعَيَّنُ، بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّ التَّضْعِيفَ فِيهِ لِلتَّعْدِيَةِ، لِأَنَّ سَارَ الرَّجُلُ لَازِمًا أَكْثَرُ مِنْ سِرْتُ الرَّجُلَ مُتَعَدِّيًا فَجَعْلُهُ نَاشِئًا عَنِ الْأَكْثَرِ أَحْسَنُ مِنْ جَعْلِهِ نَاشِئًا عَنِ الْأَقَلِّ. وَأَمَّا جَعْلُ ابْنِ عَطِيَّةَ الضَّمِيرَ كَالظَّرْفِ قَالَ كَمَا تَقُولُ: سِرْتُ الطَّرِيقَ، فَهَذَا لَا يَجُوزُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، لِأَنَّ الطَّرِيقَ عِنْدَهُمْ ظَرْفٌ مُخْتَصٌّ كَالدَّارِ وَالْمَسْجِدِ، فَلَا يَصِلُ إِلَيْهِ الْفِعْلُ غَيْرُهُ. دَخَلْتُ عند سيبويه، وانطلقت، وذهبت عِنْدَ الْفَرَّاءِ إِلَّا بِوَسَاطَةِ فِي إِلَّا فِي ضَرُورَةٍ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَضَمِيرُهُ أَحْرَى أَنْ لَا يَتَعَدَّى إِلَيْهِ الْفِعْلُ. وَإِذَا كَانَ ضَمِيرُ الظَّرْفِ الَّذِي يَصِلُ إِلَيْهِ الْفِعْلُ بِنَفْسِهِ يَصِلُ إِلَيْهِ بِوَسَاطَةٍ فِي إِلَّا إِنِ اتَّسَعَ فِيهِ فَلَأَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ الَّذِي يَصِلُ الفعل إلى ظاهره بفي أَوْلَى أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ


(١) سورة يونس: ١٠/ ١٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>