للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الأسفل لقبح معصيتهم. وقرىء: وَيَرْهَقُهُمْ بِالْيَاءِ، لِأَنَّ تَأْنِيثَ الذِّلَّةِ مَجَازٌ، وَفِي وَصْفِ الْمُنَافِقِينَ نَفْيِ الْقَتَرِ وَالذِّلَّةِ عَنْ وُجُوهِهِمْ، وَهُنَا غَشِيَتْهُمُ الذِّلَّةُ، وَبُولِغَ فِيمَا يُقَابِلُ الْقَتَرَ فَقِيلَ:

كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا، وَهَذِهِ مُبَالَغَةٌ فِي سَوَادِ الْوُجُوهِ. وَقَدْ جَاءَ مُصَرَّحًا فِي قَوْلِهِ: وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ «١» مِنَ اللَّهِ أَيْ مِنْ سَخَطِهِ وَعَذَابِهِ، أَوْ مِنْ جِهَتِهِ تَعَالَى، وَمِنْ عِنْدِهِ مَنْ يَعْصِمُهُمْ كَمَا يَكُونُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَأُغْشِيَتْ: كَسَبَتْ، وَمِنْهُ الْغِشَاءُ. وَكَوْنُ وُجُوهِهِمْ مُسْوَدَّةً هِيَ حَقِيقَةٌ لَا مَجَازٌ، فَتَكُونُ أَلْوَانُهُمْ مُسْوَدَّةً. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ:

وَاعْلَمْ أَنَّ حُكَمَاءَ الْإِسْلَامِ قَالُوا: الْمُرَادُ مِنْ هَذَا السَّوَادِ هَاهُنَا سَوَادُ الْجَهْلِ وَظُلْمَةُ الضَّلَالِ، فَإِنَّ الْجَهْلَ طَبْعُهُ طَبْعُ الظُّلْمَةِ. فَقَوْلُهُ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ، الْمُرَادُ نُورُ الْعِلْمِ وَرُوحُهُ وَبِشْرُهُ وَبِشَارَتُهُ، وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ، الْمُرَادُ مِنْهُ ظُلْمَةُ الْجَهْلِ وَكُدُورَةُ الضَّلَالَةِ انْتَهَى. وَكَثِيرًا مَا يَنْقُلُ هَذَا الرَّجُلُ عَنْ حُكَمَاءِ الْإِسْلَامِ فِي التَّفْسِيرِ، وَيَنْقُلُ كَلَامَهُمْ تَارَةً مَنْسُوبًا إِلَيْهِمْ، وَتَارَةً مُسْتَنِدًا بِهِ وَيُعْنَى: بِحُكَمَاءِ الْفَلَاسِفَةِ الَّذِينَ خُلِقُوا فِي مُدَّةِ الْمِلَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَهُمْ أَحَقُّ بِأَنْ يُسَمَّوْا سُفَهَاءَ جُهَلَاءَ مِنْ أَنْ يُسَمَّوْا حُكَمَاءَ، إِذْ هُمْ أَعْدَاءُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُحَرِّفُونَ لِلشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَهُمْ أَضَرُّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى.

وَإِذَا كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَهَى عَنْ قِرَاءَةِ التَّوْرَاةِ مَعَ كَوْنِهَا كِتَابًا إِلَهِيًّا، فَلَأَنْ يَنْهَى عَنْ قِرَاءَةِ كَلَامِ الْفَلَاسِفَةِ أَحَقُّ. وَقَدْ غَلَبَ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَقَبْلَهُ بِقَلِيلٍ الِاشْتِغَالُ بِجَهَالَاتِ الْفَلَاسِفَةِ عَلَى أَكْثَرِ النَّاسِ، وَيُسَمُّونَهَا الْحِكْمَةَ، وَيَسْتَجْهِلُونَ مَنْ عُرِّيَ عَنْهَا، ويعتقدون أنهم الكلمة مِنَ النَّاسِ، وَيَعْكُفُونَ عَلَى دِرَاسَتِهَا، وَلَا تَكَادُ تَلْقَى أحدا منهم يحفظ قُرْآنًا وَلَا حَدِيثًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلَقَدْ غَضَضْتُ مَرَّةً مِنَ ابْنِ سِينَا وَنَسَبْتُهُ لِلْجَهْلِ فَقَالَ لِي بَعْضُهُمْ وَأَظْهَرَ التَّعَجُّبَ مِنْ كَوْنِ أَحَدٍ يَغُضُّ مِنَ ابْنِ سِينَا: كَيْفَ يَكُونُ أَعْلَمَ النَّاسِ بِاللَّهِ يُنْسَبُ لِلْجَهْلِ؟ وَلَمَّا ظَهَرَ مِنْ قَاضِي الْجَمَاعَةِ أَبِي الْوَلِيدِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الْقَاسِمِ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي الْوَلِيدِ بْنِ رُشْدٍ الِاعْتِنَاءَ بِمَقَالَاتِ الْفَلَاسِفَةِ وَالتَّعْظِيمَ لَهُمْ، أَغْرَى بِهِ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ بِالْأَنْدَلُسِ الْمَنْصُورَ مَنْصُورَ الْمُوَحِّدِينَ يَعْقُوبَ بْنِ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ بْنِ عَلِيٍّ مَلِكَ الْمَغْرِبِ وَالْأَنْدَلُسِ حَتَّى أَوْقَعَ بِهِ مَا هُوَ مَشْهُورٌ مِنْ ضَرْبِهِ وَلَعْنِهِ وَإِهَانَتِهِ وَإِهَانَةِ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ عَلَى رؤوس الْأَشْهَادِ، وَكَانَ مِمَّا خُوطِبَ بِهِ الْمَنْصُورُ فِي حَقِّهِمْ قَوْلُ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ الشُّعَرَاءِ:


(١) سورة آل عمران: ٣/ ١٠٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>