للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَلَسْتُ الشَّاعِرَ السِّفْسَافَ فِيهِمْ ... وَلَكِنْ مَدَّهُ الْحَرْبُ الْعَوَالِي

أَيْ وَلَكِنْ أَنَا. وَزَعَمَ الْفَرَّاءُ وَمَنْ تَابَعَهُ أَنَّ الْعَرَبَ إِذَا قَالَتْ وَلَكِنْ بِالْوَاوِ آثَرَتْ تَشْدِيدَ النُّونِ، وَإِذَا لَمْ تَكُنِ الْوَاوُ آثَرَتِ التَّخْفِيفَ. وَقَدْ جَاءَ فِي السَّبْعَةِ مَعَ الْوَاوِ التَّشْدِيدُ وَالتَّخْفِيفُ، وَلَا رَيْبَ فِيهِ دَاخِلٌ فِي حَيِّزِ الِاسْتِدْرَاكِ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَلَكِنْ تَصْدِيقًا وَتَفْصِيلًا مُنْتَفِيًا عَنْهُ الرَّيْبُ، كَائِنًا مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ وَلَكِنْ كَانَ تَصْدِيقًا مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَتَفْصِيلًا مِنْهُ فِي ذَلِكَ، فَيَكُونُ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ متعلقا بتصديق وتفصيل، وَيَكُونُ لَا رَيْبَ فِيهِ اعْتِرَاضًا كَمَا تَقُولُ: زَيْدٌ لَا شَكَّ فِيهِ كَرِيمٌ انتهى. فقوله: فَيَكُونُ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ متعلقا بتصديق وتفصيل، إِنَّمَا يَعْنِي مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى، وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْإِعْرَابِ فَلَا يَكُونُ إِلَّا مُتَعَلِّقًا بِأَحَدِهِمَا، وَيَكُونُ مِنْ بَابِ الْإِعْمَالِ وَانْتِفَاءِ الرَّيْبِ عَنْهُ عَلَى مَا بُيِّنَ فِي الْبَقَرَةِ فِي قَوْلِهِ:

ذلِكَ الْكِتابُ لَا رَيْبَ فِيهِ «١» وَجَمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا «٢» .

أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ: لَمَّا نَفَى تَعَالَى أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ مُفْتَرًى، بَلْ جَاءَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكُتُبِ وَبَيَانًا لِمَا فِيهَا، ذَكَرَ أَعْظَمَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَهُوَ الْإِعْجَازُ الَّذِي اشْتَمَلَ عَلَيْهِ، فَأَبْطَلَ بِذَلِكَ دَعْوَاهُمُ افْتِرَاءَهُ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ مُشْبَعًا فِي الْبَقَرَةِ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ «٣» الْآيَةَ. وَأَمْ مُتَضَمِّنَةٌ مَعْنَى بَلْ، وَالْهَمْزَةُ عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ أَيْ: بَلْ أَيَقُولُونَ اخْتَلَقَهُ.

وَالْهَمْزَةُ تَقْرِيرٌ لِالْتِزَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، أَوْ إِنْكَارٌ لِقَوْلِهِمْ وَاسْتِبْعَادٌ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: أَمْ هَذِهِ بِمَنْزِلَةِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَمْ بِمَعْنَى الْوَاوِ وَمَجَازُهُ، وَيَقُولُونَ افْتَرَاهُ. وَقِيلَ: الْمِيمُ صِلَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ أَيَقُولُونَ. وَقِيلَ: أَمْ هِيَ الْمُعَادِلَةُ لِلْهَمْزَةِ، وَحُذِفَتِ الْجُمْلَةُ قَبْلَهَا وَالتَّقْدِيرُ:

أَيُقِرُّونَ بِهِ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ. وَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ قُلْ فَأْتُوا جُمْلَةَ شَرْطٍ مَحْذُوفَةً فَقَالَ: قُلْ إِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا تَزْعُمُونَ فَأْتُوا أَنْتُمْ عَلَى وَجْهِ الِافْتِرَاءِ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ، فَأَنْتُمْ مِثْلُهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَالْفَصَاحَةِ وَالْأَلْمَعِيَّةِ، فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ شَبِيهَةٍ بِهِ فِي الْبَلَاغَةِ وَحُسْنِ النَّظْمِ انْتَهَى. وَالضَّمِيرُ فِي مِثْلِهِ عَائِدٌ عَلَى الْقُرْآنِ أَيْ: بِسُورَةٍ مُمَاثِلَةٍ لِلْقُرْآنِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ لَنَا فِيمَا وَقَعَ بِهِ الْإِعْجَازُ.

وَقَرَأَ عَمْرُو بْنُ قَائِدٍ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ عَلَى الْإِضَافَةِ أَيْ: بِسُورَةِ كِتَابٍ أَوْ كَلَامٍ مِثْلِهِ أَيْ: مِثْلِ


(١) سورة البقرة: ٢/ ٢.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ٢٣.
(٣) سورة البقرة: ٢/ ٢٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>