للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ: مِنْ بَعْدِهِ أَيْ: مِنْ بَعْدِ نُوحٍ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ، يَعْنِي هُودًا وَصَالِحًا وَلُوطًا وَإِبْرَاهِيمَ وَشُعَيْبًا. وَالْبَيِّنَاتُ: الْمُعْجِزَاتُ، وَالْبَرَاهِينُ الْوَاضِحَةُ الْمُثْبِتَةُ لِمَا جَاءُوا بِهِ. وَجَاءَ النَّفْيُ مَصْحُوبًا بِلَامِ الْجُحُودِ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ إِيمَانَهُمْ فِي حَيِّزِ الِاسْتِحَالَةِ وَالِامْتِنَاعِ، وَالضَّمِيرُ فِي كَذَّبُوا عَائِدٌ عَلَى مَنْ عَادَ عَلَيْهِ ضَمِيرُ كَانُوا وَهُمْ قَوْمُ الرُّسُلِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ بِعْثَةِ الرُّسُلِ أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ وَتَكْذِيبٍ لِلْحَقِّ، فَتَسَاوَتْ حَالَتُهُمْ قَبْلَ الْبِعْثَةِ وَبَعْدُهَا، كَأَنْ لَمْ يُبْعَثْ إِلَيْهِمْ أَحَدٌ. وَمِنْ قَبْلُ مُتَعَلِّقٌ بِكَذَّبُوا أَيْ: مِنْ قَبْلِ بَعْثِهِ الرُّسُلِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَنَّهُمْ بَادَرُوا رُسُلَهُمْ بِالتَّكْذِيبِ كُلَّمَا جاء رسول، ثم لجوا فِي الْكُفْرِ وَتَمَادَوْا، فَلَمْ يَكُونُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا سَبَقَ بِهِ تَكْذِيبُهُمْ مِنْ قَبْلِ لجهم فِي الْكُفْرِ وَتَمَادِيهِمْ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَلَامٍ: مِنْ قَبْلُ مَعْنَاهُ مِنْ قَبْلِ الْعَذَابِ، وَهَذَا الْقَوْلُ فِيهِ بُعْدٌ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي كَذَّبُوا عَائِدٌ عَلَى قَوْمِ نُوحٍ أَيْ: فَمَا كَانَ قَوْمُ الرُّسُلِ لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبَ بِهِ قَوْمُ نُوحٍ، يَعْنِي: أَنَّ شِنْشِنَتَهُمْ وَاحِدَةٌ فِي التَّكْذِيبِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَيَحْتَمِلُ اللَّفْظُ عِنْدِي مَعْنًى آخَرَ وَهُوَ: أَنْ تَكُونَ مَا مَصْدَرِيَّةً، وَالْمَعْنَى فَكَذَّبُوا رُسُلَهُمْ فَكَانَ عِقَابُهُمْ مِنَ اللَّهِ أَنْ لَمْ يَكُونُوا لِيُؤْمِنُوا بِتَكْذِيبِهِمْ مِنْ قَبْلُ أَيْ: مِنْ سَبَبِهِ وَمِنْ جَرَّائِهِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ كَذَلِكَ نَطْبَعُ انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا مَوْصُولَةٌ، وَلِذَلِكَ عَادَ الضَّمِيرُ عَلَيْهَا فِي قَوْلِهِ: بِمَا كَذَّبُوا بِهِ. وَلَوْ كَانَتْ مَصْدَرِيَّةً بَقِيَ الضَّمِيرُ غَيْرَ عَائِدٍ عَلَى مَذْكُورٍ، فَتَحْتَاجُ أَنْ يُتَكَلَّفَ مَا يَعُودُ عَلَيْهِ الضَّمِيرُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:

نَطْبَعُ بِالنُّونِ، وَالْعَبَّاسُ بْنُ الْفَضْلِ بِالْيَاءِ، وَالْكَافُ لِلتَّشْبِيهِ أَيْ: مِثْلَ ذَلِكَ الطَّبْعِ الْمُحْكَمِ الَّذِي يَمْتَنِعُ زَوَالُهُ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ الْمُجَاوِزِينَ طَوْرَهُمْ وَالْمُبَالِغِينَ فِي الْكُفْرِ.

ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ. فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ أَيْ: مِنْ بَعْدِ أُولَئِكَ الرُّسُلِ بِآيَاتِنَا وَهِيَ الْمُعْجِزَاتُ الَّتِي ظَهَرَتْ عَلَى يَدَيْهِ، وَلَا يُخَصُّ قوله: وملائه بِالْأَشْرَافِ، بَلْ هِيَ عَامَّةٌ لِقَوْمِ فِرْعَوْنَ شَرِيفِهِمْ وَمَشْرُوفِهِمْ. فَاسْتَكْبَرُوا تَعَاظَمُوا عَنْ قَبُولِهَا، وَأَعْظَمُ الْكِبْرِ أَنْ يَتَعَاظَمَ الْعَبِيدُ عَنْ قَبُولِ رِسَالَةِ رَبِّهِمْ بَعْدَ تَبَيُّنِهَا وَاسْتِيضَاحِهَا، وَبِاجْتِرَامِهِمُ الْآثَامَ الْعَظِيمَةَ اسْتَكْبَرُوا وَاجْتَرَءُوا عَلَى رَدِّهَا. وَالْحَقُّ هُوَ الْعَصَا وَالْيَدُ قَالُوا لِحُبِّهِمُ الشَّهَوَاتِ: إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ الْحَقَّ أَبْعَدُ شَيْءٍ مِنَ السِّحْرِ الَّذِي لَيْسَ إِلَّا تَمْوِيهًا وَبَاطِلًا، وَلَمْ يَقُولُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ إِلَّا عِنْدَ مُعَايَنَةِ الْعَصَا وَانْقِلَابِهَا، وَالْيَدِ وَخُرُوجِهَا بَيْضَاءَ، وَلَمْ يَتَعَاطَوْا إِلَّا مُقَاوَمَةَ الْعَصَا وَهِيَ مُعْجِزَةُ مُوسَى الَّذِي وَقَعَ فِيهَا عَجْزُ الْمُعَارِضِ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ، وَابْنُ جُبَيْرٍ،

<<  <  ج: ص:  >  >>