للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْإِنْجَازِ، لِيَدُلَّ بِمَا ذَكَرَ عَلَى مَا تَرَكَ عَلَى أَنَّهُ قَدْ كَرَّرَ الْإِصَابَةَ فِي الْخَيْرِ فِي قَوْلِهِ: يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَالْمُرَادُ بِالْمَشِيئَةِ المصلحة.

قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ. وَاتَّبِعْ مَا يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ الْحَقُّ: الْقُرْآنُ، أَوِ الرَّسُولُ، أَوْ دِينُ الْإِسْلَامِ، ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ وَالْمَعْنَى:

فَإِنَّمَا ثَوَابُ هِدَايَتِهِ حَاصِلٌ لَهُ، وَوَبَالُ ضَلَالِهِ عَلَيْهِ، وَالْهِدَايَةُ وَالضَّلَالُ وَاقِعَانِ بِإِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْعَبْدِ، هَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ. وَأَنَّ مَنْ حُكِمَ لَهُ فِي الْأَزَلِ بِالِاهْتِدَاءِ فَسَيَقَعُ ذَلِكَ، وَأَنَّ مَنْ حُكِمَ لَهُ بِالضَّلَالِ فَكَذَلِكَ وَلَا حِيلَةَ فِي ذَلِكَ. وَقَالَ الْقَاضِي: إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ أَكْمَلَ الشَّرِيعَةَ وَأَزَاحَ الْعِلَّةَ وَقَطَعَ الْمَعْذِرَةَ، فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ، وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ، فَلَا يَجِبُ عَلَيَّ مِنَ السَّعْيِ فِي إِيصَالِكُمْ إِلَى الثَّوَابِ الْعَظِيمِ، وَفِي تَخْلِيصِكُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ، أَزْيَدُ مِمَّا فَعَلْتُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَمْ يَبْقَ لَكُمْ عُذْرٌ وَلَا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى حُجَّةٌ، فَمَنِ اخْتَارَ الْهُدَى وَاتِّبَاعَ الْحَقِّ فَمَا نَفَعَ بِاخْتِيَارِهِ إِلَّا نَفْسَهُ، وَمَنْ آثَرَ الضَّلَالَ فَمَا ضَرَّ إِلَّا نَفْسَهُ. وَاللَّامُ وَعَلَى عَلَى مَعْنَى النَّفْعِ وَالضُّرِّ، وَكَّلَ إِلَيْهِمُ الْأَمْرَ بَعْدَ إِزَاحَةِ الْعِلَلِ وَإِبَانَةِ الْحَقِّ. وَفِيهِ حَثٌّ عَلَى إِتْيَانِ الْهُدَى وَاطِّرَاحِ الضَّلَالِ مَعَ ذَلِكَ، وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ بِحَفِيظٍ مَوْكُولٍ إِلَيَّ أَمْرُكُمْ وَحَمْلُكُمْ عَلَى مَا أُرِيدُ، إِنَّمَا أَنَا بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ انْتَهَى. وَكَلَامُهُ تَذْيِيلُ كَلَامِ الْقَاضِي، وَهُوَ جَارٍ عَلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ. وَأَمْرُهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ بِاتِّبَاعٍ مَا يُوحَى إِلَيْهِ أَمْرٌ بِالدَّيْمُومَةِ وَبِالصَّبْرِ عَلَى مَا يَنَالُكَ فِي اللَّهِ مِنْ أَذَى الْكُفَّارِ وَإِعْرَاضِهِمْ، وَغَيَّا الْأَمْرَ بِالصَّبْرِ بِقَوْلِهِ: حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ وَعْدٌ مِنْهُ تَعَالَى بِإِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ وَنَصْرِهِ عَلَى أَعْدَائِهِ كَمَا وَقَعَ. وَذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ: وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ واصبر، مَنْسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ. وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّهُ مُحْكَمٌ، وَحَمَلُوا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِحَفِيظٍ عَلَى أَعْمَالِهِمْ لِيُجَازِيَهُمْ عَلَيْهَا، بَلْ ذَلِكَ لِلَّهِ. وَقَوْلُهُ: وَاصْبِرْ عَلَى، الصَّبْرِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَحَمْلِ أَثْقَالِ النُّبُوَّةِ وَأَدَاءِ الرِّسَالَةِ، وَعَلَى هَذَا لَا تَعَارُضَ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ وَبَيْنَ آيَةِ السَّيْفِ، وَإِلَى هَذَا مَالَ الْمُحَقِّقُونَ.

وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ: وَاصْبِرْ، جَمَعَ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَنْصَارَ فَقَالَ: «إِنَّكُمْ سَتَجِدُونَ بِعْدِي أَثَرَةً فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي»

قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَعْنِي أَنِّي أُمِرْتُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالصَّبْرِ عَلَى مَا سَامَنِي الْكَفَرَةُ، فَصَبَرْتُ وَاصْبِرُوا أَنْتُمْ عَلَى مَا يَسُومُكُمُ الْأُمَرَاءُ الْجَوَرَةُ. قَالَ أَنَسٌ: فَلَمْ نَصْبِرْ، ثُمَّ ذَكَرَ حِكَايَةً جَرَتْ بَيْنَ أَبِي قَتَادَةَ وَمُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يُوقَفُ عَلَيْهَا مِنْ كِتَابِهِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>