للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

نَاجَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي أَمْرِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: يَثْنُونَهَا حَيَاءً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَعْنَى يَسْتَغْشُونَ:

يَجْعَلُونَهَا أَغْشِيَةً. وَمِنْهُ قَوْلُ الْخَنْسَاءِ:

أَرْعَى النُّجُومَ وَمَا كُلِّفْتُ رِعْيَتَهَا ... وَتَارَةً أَتَغَشَّى فَضْلَ أَطْمَارِي

وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالثِّيَابِ اللَّيْلُ، وَاسْتُعِيرَتْ لَهُ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْعَلَاقَةِ بِالسَّتْرِ، لِأَنَّ اللَّيْلَ يَسْتُرُ كَمَا تَسْتُرُ الثِّيَابُ وَمِنْهُ قَوْلُهُمُ: اللَّيْلُ أَخْفَى لِلْوَيْلِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَلَى حِينِ يَسْتَغْشُونَ. قال ابن عطية: ومن هَذَا الِاسْتِعْمَالِ قَوْلُ النَّابِغَةِ:

عَلَى حِينَ عَاتَبْتُ الْمَشِيبَ عَلَى الصِّبَا ... وَقُلْتُ أَلَمَّا أَصِحُّ وَالشَّيْبُ وَازِعُ

انْتَهَى.

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا يُسِرُّونَ بِقُلُوبِهِمْ، وَمَا يُعْلِنُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ. وَقِيلَ: مَا يُسِرُّونَ بِاللَّيْلِ وَمَا يُعْلِنُونَ بِالنَّهَارِ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَعْلَمُ سَرَائِرَهُمْ كَمَا يَعْلَمُ مَظْهَرَانِهِمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَعْنِي أَنَّهُ لَا تَفَاوُتَ فِي عِلْمِهِ بَيْنَ إِسْرَارِهِمْ وَإِعْلَانِهِمْ، فَلَا وَجْهَ لِتَوَصُّلِهِمْ إِلَى مَا يُرِيدُونَ مِنَ الِاسْتِخْفَاءِ وَاللَّهُ مُطَّلِعٌ عَلَى ثَنْيِهِمْ صُدُورَهُمْ، وَاسْتِغْشَائِهِمْ بِثِيَابِهِمْ، وَنِفَاقُهُمْ غَيْرُ نَافِقٍ عِنْدَهُ. وَقَالَ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ: الَّذِي يَقْتَضِيهِ سِيَاقُ الْآيَةِ أَنَّهُ أَرَادَ بِمَا يُسِرُّونَ مَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ صُدُورُهُمْ مِنَ الشِّرْكِ وَالنِّفَاقِ وَالْغِلِّ وَالْحَسَدِ وَالْبُغْضِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ، وَأَعْمَالُ الْقُلُوبِ خَفِيَّهٌ جِدًّا، وَأَرَادَ بِمَا يُعْلِنُونَ مَا يُظْهِرُونَهُ مِنَ اسْتِدْبَارِهِمُ النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ وَتَغْشِيَةِ ثِيَابِهِمْ، وَسَدِّ آذَانِهِمْ وَهَذِهِ كُلُّهَا أَعْمَالٌ ظَاهِرَةٌ لَا تَخْفَى.

وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ: الدَّابَّةُ هُنَا عَامٌّ فِي كُلِّ حَيَوَانٍ يَحْتَاجُ إِلَى رِزْقٍ، وعلى اللَّهِ ظَاهِرٌ فِي الْوُجُوبِ، وَإِنَّمَا هُوَ تُفَضُّلٌ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا ضَمِنَ تَعَالَى أَنْ يَتَفَضَّلَ بِهِ عَلَيْهِمْ أَبْرَزَهُ فِي حَيِّزِ الْوُجُوبِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مُسْتَقَرَّهَا حَيْثُ تَأْوِي إِلَيْهِ مِنَ الْأَرْضِ، وَمُسْتَوْدَعَهَا الْمَوْضِعَ الَّذِي تَمُوتُ فِيهِ فَتُدْفَنُ.

وَعَنْهُ أَيْضًا: مُسْتَقَرَّهَا فِي الرَّحِمِ، وَمُسْتَوْدَعَهَا فِي الصُّلْبِ. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: مُسْتَقَرَّهَا فِي أَيَّامِ حَيَاتِهَا، وَمُسْتَوْدَعَهَا حِينَ تَمُوتُ وَحِينَ تُبْعَثُ. وَقِيلَ: مُسْتَقَرَّهَا فِي الْجَنَّةِ أَوْ فِي النَّارِ، وَمُسْتَوْدَعَهَا فِي الْقَبْرِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ: حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا «١» وساءَتْ مُسْتَقَرًّا «٢» وَقِيلَ: مَا يَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ عَمَلُهَا، وَمُسْتَوْدَعَهَا مَا تَصِيرُ إِلَيْهِ. وَقِيلَ: الْمُسْتَقَرُّ مَا حَصَلَ مَوْجُودًا مِنَ الْحَيَوَانِ، وَالْمُسْتَوْدَعُ مَا سَيُوجَدُ بَعْدَ الْمُسْتَقَرِّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْمُسْتَقَرُّ مَكَانُهُ مِنَ الْأَرْضِ


(١) سورة الفرقان: ٢٥/ ٧٦.
(٢) سورة الفرقان: ٢٥/ ٦٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>