نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ. حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ: وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ حِكَايَةُ حَالٍ مَاضِيَةٍ، وَالْفُلْكُ السَّفِينَةُ.
وَلَمَّا أَمَرَهُ تَعَالَى بِأَنْ يَصْنَعَ الْفُلْكَ قَالَ: يَا رَبِّ مَا أَنَا بِنَجَّارٍ، قَالَ: بَلَى، ذَلِكَ بِعَيْنِي. فَأَخَذَ الْقَدُومَ، وَجَعَلَتْ يَدُهُ لَا تخطىء، فَكَانُوا يَمُرُّونَ بِهِ وَيَقُولُونَ: هَذَا الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ صَارَ نَجَّارًا؟ وَقِيلَ: كَانَتِ الْمَلَائِكَةُ تُعَلِّمُهُ، وَاسْتَأْجَرَ أُجَرَاءَ كَانُوا يَنْحِتُونَ مَعَهُ، وَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنْ عَجِّلْ عَمَلَ السَّفِينَةِ فَقَدِ اشْتَدَّ غَضَبِي عَلَى مَنْ عَصَانِي، وَكَانَ سَامُ وَحَامُ وَيَافِثُ يَنْحِتُونَ مَعَهُ
، وَالْخَشَبُ مِنَ السَّاجِ قَالَهُ: قَتَادَةُ، وَعِكْرِمَةُ، وَالْكَلْبِيُّ. قِيلَ: وَغَرَسَهُ عِشْرِينَ سَنَةً.
وَقِيلَ: ثَلَاثَمِائَةِ سَنَةٍ يَغْرِسُ وَيَقْطَعُ وَيَيْبِسُ. وقال عمرو بن الحرث: لَمْ يَغْرِسْهَا بَلْ قَطَعَهَا مِنْ جَبَلِ لُبْنَانَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِنْ خَشَبِ الشِّمْشَارِ، وَهُوَ الْبَقْصُ قِطْعَةٌ مِنْ جَبَلِ لُبْنَانَ.
وَاخْتَلَفُوا فِي هَيْئَتِهَا مِنَ التَّرْبِيعِ وَالطُّولِ، وَفِي مِقْدَارِ مُدَّةِ عَمَلِهَا، وَفِي الْمَكَانِ الَّذِي عَمِلَتْ فِيهِ، وَمِقْدَارِ طُولِهَا وَعَرْضِهَا، عَلَى أَقْوَالٍ مُتَعَارِضَةٍ لَمْ يَصِحَّ مِنْهَا شَيْءٌ.
وَسُخْرِيَتُهُمْ مِنْهُ لِكَوْنِهِمْ رَأَوْهُ يَبْنِي السَّفِينَةَ وَلَمْ يُشَاهِدُوا قَبْلَهَا سَفِينَةً بُنِيَتْ، قَالُوا: يَا نُوحُ مَا تَصْنَعُ؟ قَالَ:
ابْنِي بَيْتًا يَمْشِي عَلَى الْمَاءِ، فَعَجِبُوا مِنْ قَوْلِهِ وَسَخِرُوا مِنْهُ قَالَهُ: مُقَاتِلٌ.
وَقِيلَ: لِكَوْنِهِ يَبْنِي فِي قَرْيَةٍ لَا قُرْبَ لَهَا مِنَ الْبَحْرِ، فَكَانُوا يَتَضَاحَكُونَ وَيَقُولُونَ: يَا نُوحُ صرت نجارا بعد ما كُنْتَ نَبِيًّا. وَكُلَّمَا ظَرْفٌ الْعَامِلُ فِيهِ سَخِرُوا مِنْهُ، وَقَالَ: مُسْتَأْنَفٌ عَلَى تَقْدِيرِ سُؤَالِ سَائِلٍ.
وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ قَالَ: وَسَخِرُوا صِفَةٌ لِمَلَأٍ، أَوْ بَدَلٌ مِنْ مَرَّ، وَيَبْعُدُ الْبَدَلُ لِأَنَّ سَخِرَ لَيْسَ فِي مَعْنَى مَرَّ لَا يُرَادُ ذَا وَلَا نَوْعًا مِنْهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَسَخِرُوا مِنْهُ اسْتَجْهَلُوهُ، فَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا رُوِيَ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا رَأَوْا سَفِينَةً قَطُّ، وَلَا كَانَتْ، فَوَجْهُ الِاسْتِجْهَالِ وَاضِحٌ، وَبِذَلِكَ تَظَاهَرَتِ التَّفَاسِيرُ، وَإِنْ كَانَتِ السَّفَائِنُ جينئذ مَعْرُوفَةً فَاسْتَجْهَلُوهُ فِي أَنَّ صُنْعَهَا فِي قَرْيَةٍ لَا قُرْبَ لَهَا مِنَ الْبَحْرِ انْتَهَى. فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كَمَا تَسْخَرُونَ مِنَّا الْآنَ أَيْ: مِثْلَ سُخْرِيَتِكُمْ إِذَا أُغْرِقْتُمْ فِي الدُّنْيَا، وَأُحْرِقْتُمْ فِي الْآخِرَةِ، أَوْ إِنْ تَسْتَجْهِلُونَا فِيمَا نَصْنَعُ فَإِنَّا نَسْتَجْهِلُكُمْ فِيمَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ والتعريض لِسَخَطِ اللَّهِ وَعَذَابِهِ، فَأَنْتُمْ أَوْلَى بِالِاسْتِجْهَالِ مِنَّا قَالَ: قَرِيبًا مِنْ مَعْنَاهُ الزَّجَّاجُ. أَوْ إِنْ تَسْتَجْهِلُونَا فَإِنَّا نَسْتَجْهِلُكُمْ فِي اسْتِجْهَالِكُمْ، لِأَنَّكُمْ لَا تَسْتَجْهِلُونَ إِلَّا عَنْ جَهْلٍ بِحَقِيقَةِ الْأَمْرِ، وَبِنَاءً عَلَى ظَاهِرِ الْحَالِ، كَمَا هُوَ عَادَةُ الْجَهَلَةِ فِي الْبُعْدِ عَنِ الْحَقَائِقِ. وَقَالَ ابن جريج: إن يسخروا مِنَّا فِي الدُّنْيَا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ فِي الْآخِرَةِ.
وَالسُّخْرِيَةُ اسْتِجْهَالٌ مَعَ اسْتِهْزَاءٍ. وَفِي قَوْلِهِ: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ، تَهْدِيدٌ بَالِغٌ، وَالْعَذَابُ