للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عَلَى أَنِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ مَا يَجِبُ بِمَا يَجِبُ أَنْ لَا يَشْتِبَهَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَعْنَى قَوْلِهِ: فلا تسألن مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ، أَيْ إِذْ وَعَدْتُكَ فَاعْلَمْ يَقِينًا أَنَّهُ لَا خُلْفَ فِي الْوَعْدِ، فَإِذَا رَأَيْتَ وَلَدَكَ لَمْ يُحْمَلْ فَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْكَ أَنْ تَقِفَ وَتَعْلَمَ أَنَّ ذَلِكَ لِحَقٍّ وَاجِبٍ عِنْدَ اللَّهِ، وَلَكِنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ حَمَلَتْهُ شَفَقَةُ الْبُنُوَّةِ وَسَجِيَّةُ الْبَشَرِ عَلَى التَّعَرُّضِ لِنَفَحَاتِ الرَّحْمَةِ وَالتَّذْكِيرِ، وَعَلَى هَذَا الْقَدْرِ وَقَعَ عِقَابُهُ، وَلِذَلِكَ جَاءَ بِتَلَطُّفٍ وَتَرَجٍّ فِي قَوْلِهِ: إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ. وَيَحْتَمِلُ قوله:

فلا تسألن مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ، أَيْ: لَا تَطْلُبْ مِنِّي أَمْرًا لَا تَعْلَمُ الْمَصْلَحَةَ فِيهِ عِلْمَ يَقِينٍ، وَنَحَا إِلَى هَذَا أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ وَقَالَ: إِنَّ بِهِ يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِلَفْظٍ عَامٍّ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:

كَأَنَّ جَزَائِي بِالْعَصَا أَنْ أُجْلَدَا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِهِ بِمَنْزِلَةِ فِيهِ، فَتَتَعَلَّقُ الْبَاءُ بِالْمُسْتَقَرِّ. وَاخْتِلَافُ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ إِنَّمَا هُوَ لَفْظِيٌّ، وَالْمَعْنَى فِي الْآيَةِ واحد. وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ تَأْوِيلًا فِي قَوْلِهِ: إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ لَا يُنَاسِبُ النُّبُوَّةَ تَرْكَنَاهُ، وَيُوقَفُ عَلَيْهِ فِي تَفْسِيرِ ابْنِ عَطِيَّةَ. وَقِيلَ:

سَأَلَ نُوحٌ رَبَّهُ حِينَ صَارَ عَنْهُ ابْنُهُ بِمَعْزِلٍ، وَقِيلَ: قَبْلَ أَنْ عَرَفَ هَلَاكَهُ، وَقِيلَ: بَعْدَ أَنْ عَرَفَ هَلَاكَهُ سَأَلَ اللَّهَ لَهُ الْمَغْفِرَةَ. أَنْ أَسْأَلَكَ مِنْ أَنْ أَطْلُبَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مَا لَا عِلْمَ لِي بِصِحَّتِهِ تَأْدِيبًا بِأَدَبِكَ، وَاتِّعَاظًا بِمَوْعِظَتِكَ، وَهَذِهِ إِنَابَةٌ مِنْ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَتَسْلِيمٌ لِأَمْرِ اللَّهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالسُّؤَالُ الَّذِي وَقَعَ النَّهْيُ عَنْهُ وَالِاسْتِعَاذَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ مِنْهُ هُوَ سُؤَالُ الْعَزْمِ الَّذِي مَعَهُ مُحَاجَّةٌ، وَطَلِبَةٌ مُلِحَّةٌ فِيمَا قَدْ حُجِبَ وَجْهُ الْحِكْمَةِ فِيهِ. وَأَمَّا السُّؤَالُ فِي الْأُمُورِ عَلَى جِهَةِ التَّعَلُّمِ وَالِاسْتِرْشَادِ فَغَيْرُ دَاخِلٍ فِي هَذَا، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: فَلَا تسألن مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ، يَعُمُّ النَّحْوَيْنِ مِنَ السُّؤَالِ، وَلِذَلِكَ نَبَّهْتُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَحَدُهُمَا دُونَ الآخر، والخاسرون هُمُ الْمَغْبُونُونَ حُظُوظَهُمْ مِنَ الْخَيْرِ انْتَهَى. وَنَسَبَ نُوحٌ النَّقْصَ وَالذَّنْبَ إِلَى نَفْسِهِ تَأَدُّبًا مَعَ رَبِّهِ فَقَالَ: وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي، أَيْ مَا فَرَطَ مِنْ سُؤَالِي وَتَرْحَمْنِي بِفَضْلِكَ، وَهَذَا كَمَا قَالَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ.

قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ. تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ: بُنِيَ الْفِعْلُ لِلْمَفْعُولِ، فَقِيلَ: الْقَائِلُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَقِيلَ: الْمَلَائِكَةُ تَبْلِيغًا عَنِ اللَّهِ تَعَالَى. وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ لِقَوْلِهِ: مِنَّا، وسنمتعهم. أُمِرَ عِنْدَ نُزُولِهِ بِالْهُبُوطِ مِنَ السَّفِينَةِ وَمِنَ الْجَبَلِ مَعَ أَصْحَابِهِ لِلِانْتِشَارِ فِي الْأَرْضِ، وَالْبَاءُ لِلْحَالِ أَيْ:

<<  <  ج: ص:  >  >>